للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المبحث الأول: نَقْل مَقام إبراهيم: وفيه تمهيد ومطلبان:

التمهيد: المَقام في اللغة: موضع قدم القائم. ومَقام إبراهيم: هو الحَجَر الذي قام عليه حين رَفَع بناء البيت وبه أَثَرُ قدميه. ومنه قوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] وهو موجود بداخل الموضع الزجاجي الواقع أمام الكعبة المشرفة، الذي أُسِّس في عهد الحكومة السعودية، سَنة (١٣٧٤ هـ) فأصبح يراه العامّ والخاص بعد هدم الموضع الأول البنائي، الذي كان لا يَرى فيه المَقام إلا الخواص (١).

المطلب الأول: هل موضع المَقام الآن هو موضعه في زمن النبوة، أو في زمن عمر؟

اختَلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أن مَقام إبراهيم كان عند الباب، وأن الذي وضعه في هذا المقام هو عمر؛ تخفيفًا عن الطائفين. وهو قول عائشة وعروة، ومجاهد ومالك (٢).

واستدلوا بالسُّنة والمأثور:

أما السُّنة، فعند أبي داود في حديث جابر الطويل في حجة النبي ، قال: حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبرَاهِيمَ، فَقَرَأَ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ.

وَجْه الدلالة: (ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبرَاهِيمَ) فلا شك أن كلمة (تَقَدَّمَ) تدل على أن المَقام كان ملاصقًا للكعبة. ولو كان المَقام في موضعه الآن، لقال: (تَأَخَّرَ) (٣).

وأما المأثور، فَرَوَتْ عَائِشَةَ أَنَّ الْمَقَامَ كَانَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ، ، وَزَمَانِ أَبِي بَكْرٍ- مُلْتَصِقًا بِالْبَيْتِ، ثُمَّ أَخَّرَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ (٤).


(١) وقيل: بل هو مناسك الحج كلها. وقيل: عرفة. وقيل: مزدلفة. وقيل: الحَرَم كله. ويَرفع هذا الخلاف، ويُبيِّن المراد بالمَقام- قولُه : «فجَعَل المَقام بينه وبين الكعبة» وهذا يدل على أنه هو الموضع المعروف هناك، الذي يَستقبل بابَ البيت. «المُفْهِم» (٣/ ٢٥٦)، و «فتح الباري» (١/ ١٨٩).
(٢) «فتح الباري» لابن رجب (٢/ ٣٠٧)، و «المُدوَّنة» (٢/ ٢٥٢).
(٣) رسالة «مَقام إبراهيم» للمُعَلِّمي اليماني (ص: ٨١، ٨٢).
(٤) ضعيف، أُعِل بالإرسال، مدار هذا الأثر على هشام بن عروة، عن أبيه. واختُلف عنه:
ويرويه الدراوردي، واختُلف عليه:
فقيل: عنه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة! كما في «مسند الفاروق» (٣٤٥).
وقيل: عنه، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أُراه عن عائشة! أخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (٩٩٨).
ورواه عيسى بن يونس وابن عُيينة، كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه. ليس فيه: (عائشة). أخرجه الفاكهي (٩٩٧)، والأزرقي (٢/ ٣٥). ورَجَّح هذا الوجه المرسلَ أبو زُرْعَة «العلل» (٨٩٦).
ورَوَى عبد الرزاق (٨٩٥٥): عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَزْعُمُونَ أَنَّ عُمَرَ أَوَّلُ مَنْ رَفَعَ المَقَامَ، فَوَضَعَهُ مَوْضِعَهُ الآنَ. وهذا ضعيف؛ لانقطاعه بين عطاء وأصحابه وبين عمر.
وقد روى عبد الرزاق (٨٩٥٤): عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْضَ خِلَافَتِهِ- كَانُوا يُصَلُّونَ صُقْعَ الْبَيْتِ حَتَّى صَلَّى عُمَرُ خَلْفَ الْمَقَامِ.
وقد أَنْكَر ابن رجب هذا الأثر، فقال: وهذا يوهم أن النبي لم يُصَلِّ إلى المَقام، وهذا باطل يَرُده حديث ابن عمر وجابر كما تقدم، وهذا يناقض ما قاله عروة أن المَقام كان في عهد النبي وأبي بكر- مُلصَقًا بالبيت، فكيف يكون كذلك ثم يَزعم أن النبي وأبا بكر صليا عند البيت، ولم يصليا خلف المَقام إلى أن صلى خلفه عمر؟! فقد اضطرب قول عروة في هذا واختَلف. «فتح الباري» (٣/ ٨٥).

<<  <   >  >>