وإنما كان المن كذلك لأنه لا يكون غالبًا إلَّا عن البخل والعجب، والكبر ونسيان منة الله تعالى فيما أنعم به عليه، فالبخيل يُعْظم في نفسه العطية وإن كانت حقيرة في نفسها، والعجب يحمله على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنه مُنعم بماله على المعطى له، ومتفضل عليه وإن له عليه حقًّا يجب عليه مراعاته، والكبر يحمله على أن يحتقر المُعطى له؛ وإن كان في نفسه فاضلًا، وموجب ذلك كله الجهل ونسيان منة الله تعالى فيما أنعم به عليه، إذ قد أنعم عليه مما يُعطي، ولم يحرمه ذلك، وجعله ممن يُعطي ولم يجعله ممن يسأل، ولو نظر ببصيرته لعلم أن المنة للآخذ لما يزيل عن المُعطي من إثم المنع، وذم المانع، ومن الذنوب ولما يحصل له من الأجر الجزيل، والثناء الجميل، ولبسط هذا موضع آخر.
وقيل المنان في هذا الحديث هو من المَن الذي هو القطع، كما قال الله تعالى {لَهُمْ أَجْرٌ غَيرُ مَمْنُونٍ}[فصلت: ٨]، أي غير مقطوع، فيكون معناه البخيل، بقطعه عطاء ما يجب عليه للمستحق، كما قد جاء في حديث آخر "البخيل المنان" رواه أحمد من حديث أبي ذر رضي الله عنه فنعته به، لأن المن يستلزم البخل، لأن المان لا يمن إلَّا بما عظم في عينيه وشح بإخراجه، والجواد لا يستعظم فلا يمن ويدل على أنَّه يستلزمه قوله:
وإن امرأً أهدى إلي صنيعة ... وذكَّرنيها مرة لبخيل
وإذا كان التذكير بالنعمة يستلزم بالبخل فكيف بالمن الذي هو أخص منه، وإنما كان أخص منه، لأنه تقرير النعمة على من أسديت إليه، والمعنى الأول أظهر لقوله "لا يُعطي شيئًا إلَّا منها (والمنفق) أي المربح (سلعته) المعروضة للبيع (بالحلف الكاذب) أي باليمين الفاجرة، فهو بمعنى الرواية الأخرى "بالحلف الفاجر" ويقال: الحلف بكسر اللام وإسكانها.
قال القرطبي: قوله: (والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) الرواية في المُنفق بفتح النون وكسر الفاء مشددة، وهو مضاعف نفق البيع ينفق نفاقًا إذا خرج ونفد، وهو ضد كسد، غير أن نفق المُخفف لازم، فإذا شُدد عُدي إلى المفعول، ومفعوله هنا سلعته، وقد وصف الحلف وهي مؤنثة بالكاذب، وهو وصف مذكر، وكأنه ذهب بالحلف مذهب القول فذكره، أو مذهب المصدر وهو مثل قولهم أتاني كتابه فمزقتها، ذهب بالكتاب مذهب الصحيفة والله تعالى أعلم.