وفي المفهم قوله (إن الرجل فاجر) إلخ، الفاجر: هو الكاذب الجريء على الكذب، والورع: المُنْكَفُّ، ومنه قولهم:(روعوا اللص ولا تورعوه) أي لا تنكفوا عنه، وظاهر هذا الحديث أن ما يجري بين المتخاصمين في مجلس الحكم من مثل هذا السب والتقبيح جائز ولا شيء فيه، إذ لم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم والجمهور لا يجيزون شيئًا من ذلك، ويرون إنكار ذلك، ويؤدبون عليه، تمسكًا بقاعدة تحريم السباب والأعراض، واعتذروا عن هذا الحديث، بأنه محتمل لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أن المقول له ذلك القول كان كما قيل له، فكان القائل صادقًا، ولم يقصد أذاه بذلك، وإنما قصد منفعة يستخرجها فلعله إذا شنع عليه فقد ينزجر بذلك فيرجع به للحق، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تركه ولم يزجره لأن المقول له لم يطلب حقه في ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ منه.
(فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس لك) يا حضرمي (منه) أي من الكندي (إلا ذلك) أي إلا يمينه (فانطلق) الكندي، وذهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي يحلف فيه من توجه عليه الحلف (ليحلف) على أن الأرض له لا للحضرمي، وقوله "فانطلق ليحلف" دليل على أن اليمين لا تبذل أمام الحاكم بل لها موضع مخصوص، وهو أعظم مواضع ذلك البلد كالكعبة بمكة، ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ومسجد بيت المقدس في الشام، وفي المساجد الجامعة من سائر الأمصار والبلدان، ولكن ذلك فيما ليس بتافه وهو ما لا تقطع فيه يد السارق، وهو أقل من ربع دينار عند مالك، فيحلف فيه حيث كان مستقبل القبلة، وفي ربع الدينار فصاعدًا لا يحلف إلا في تلك المواضع، وخالفه أبو حنيفة في ذلك فقال: لا تكون اليمين إلا حيث كان الحاكم.
وظاهر هذا الحديث أن المدعى عليه إذا حلف انقطعت حجة خصمه، وبقي المدعى فيه بيده وعلى ملكه في ظاهر الأمر غير أنه لا يحكم له الحاكم بملك ذلك فإنه غايته أنه حائز، ولم يجد ما يحيى يله عن حوزه، فلو سأل المطلوب تعجيز الطالب بحيث لا تبقى له حجة فهل للحاكم تعجيزه وقطع حجته أم لا قولان: بالنفي والإثبات، وفي هذا الحديث أبواب من علم القضاء لا تخفى اهـ من المفهم.