الأعمش مدلس، وقد قدمنا: أن المدلس لا يحتج بروايته إذا قال عن، وجوابه ما قدمناه مراتٍ في الفصول وغيرها: أنه ثبت سماع الأعمش هذا الحديث من زيد من جهة أخرى، فلم يضره بعد هذا قوله فيه عن.
(قال) حذيفة (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين) يعني في خصوص الأمانة، وإلا فرواية حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة في الصحيحين وغيرهما، وعنى بأحد الحديثين قوله: "حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال" وبالثاني قوله: "ثم حدثنا عن رفع الأمانة" إلى آخره، قال الأبي: وكان الشيخ ابن عرفة يقول: هما حديث واحد، ولعل الحديث الثاني حديث عرض الفتن.
قال حذيفة (قد رأيت) أنا (أحدهما) وهو نزول الأمانة في جذر القلوب (وأنا أنتظر) وأرقب (الآخر) أي مجيء الحديث الآخر، وهو حديث رفع الأمانة، الأول منهما ما ذكره بقوله (حدثنا) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادف المصدوق (أن الأمانة نزلت) وحلت وخُلقت (في جذر) بفتح الجيم وكسرها مع سكون الذال المعجمة، أي في أصل (قلوب الرجال) الكاملين، والنساء الكوامل يعني الصالحين والصالحات، أي وجدت في قلوبهم في أول خلقتها وصارت فطرة وطبيعة فيها حتى يعرض عليها ما يزيلها من الفتن، كما يشهد له حديث: "كل مولود يولد على الفطرة ثم أبواه يهودانه أو ينصرانه".
قال صاحب التحرير:(والأمانة) المذكورة في الحديث هي الأمانة المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا} وهي عين الإيمان ونفسه، فإذا استمكنت الأمانة من قلب العبد قام حينئذ بأداء التكاليف، واغتنم ما يرد عليه منها، وجد في إقامتها والله أعلم.
قال الطيبي: لعله إنما حملهم على تفسير الأمانة في قوله: "إن الأمانة نزلت" بالإيمان لقوله آخرًا "وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان" وهلَّا حملوها على حقيقتها لقوله "ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانة" فيكون وضع الإيمان آخرًا موضعها تفخيمًا لشأنها، وحثًا على أدائها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا دين لمن لا أمانة له".