من حيث هو مقر لتلك الخاصية الإلهية علمت أنه أشرف الأعضاء وأعز الأجزاء إذ ليس ذلك المعنى موجودًا في شيء منها ثم إن الجوارح مسخرة له ومطيعة فما استقر فيه ظهر عليها وعملت على مقتضاه إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر وعند هذا انكشف لك معنى قوله:(إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله) ولما ظهر ذلك وجبت العناية بالأمور التي يصلح بها القلب ليتصف بها وبالأمور التي تفسد القلب ليجتنبها ومجموع ذلك علوم وأعمال وأحوال.
فالعلوم ثلاثة: الأول: العلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه وتصديق رسله فيما جاؤوا به. والثاني: العلم بأحكامه عليهم ومراده منهم. والثالث: العلم بمساعي القلوب من خواطرها وهمومها ومحمود أوصافها ومذمومها. وأما أعمال القلوب فالتحلي بالمحمود من الأوصاف والتخلي عن المذموم منها ومنازلة المقامات والترقي عن مفضول المنازلات إلى سَنِيِّ الحالات.
وأما الأحوال فمراقبة الله تعالى في السر والعلن والتمكن من الاستقامة على السنن وإلى هذا أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:"أن تعبد الله كأنك تراه" وتفصيل هذه المعاقد الجمليّة توجد في تصانيف محققي الزهادية.
(تنبيه): الجوارح وإن كانت متابعة للقلب فقد يتأثر القلب بأعمالها للارتباط والعلاقة التي بين الباطن والظاهر والقلب مع الجوارح كالملك مع الرعية إن صلح صلحت ثم يعود صلاحها عليه بزيادة مصالح ترجع إليه ولذلك قيل: الملك سوق ما نفق عنده جلب عليه وقد نص على هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الرجل ليصدق فينكت في قلبه نكتة بيضاء حتى يكتب عند الله تعالى صدّيقًا، وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسودّ قلبه حتى يكتب عند الله كذابًا" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وفي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"إن الرجل ليصيب الذنب فيسود قلبه فإن هو تاب صقُل قلبه" قال: وهو الران الذي ذكر الله تعالى في كتابه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)} [المطففين: ١٤] وقال مجاهد: القلب كالكف تُقبض منه بكل ذنب أصبع ثم يُطبع، وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله:"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله" متصلًا بقوله: "الحلال بيّن والحرام بيّن" إشعارًا بأن أكل الحلال ينوره