ثم فصل الثلاثة في الموضعين على سبيل اللف والنشر المرتب فذكر الأول من الثلاثة الأولى بقوله (فيرضى لكم أن تعبدوه) أي فيأمركم أن تفردوه بالعبادة بامتثال مأموراته واحتناب منهياته وذكر الثاني منها بقوله (ولا تشركوا به شيئًا) من المخلوقات إنسًا وجنًا وملكًا حيًّا أو ميتًا جمادًا أو حيوانًا أو شيئًا من الشرك جليًّا أو خفيًّا ولما كانت العبادة لا تستلزم نفي الإشراك عده ثانية من تلك الثلاث والثالث ما ذكره بقوله (و) يأمركم (أن تعتصموا) أي تتمسكوا (بحبل الله) أي بدين الله (جميعًا) أي حالة كونكم جميعًا متفقين عليه لا مختلفين فيه وأكده بقوله (ولا تفرقوا) فيه كتفرق من قبلكم في دينهم وهو بحذف إحدى التاءين أي: لا تتفرقوا وهذا نفي عطف على تعتصموا أي وأن لا تختلفوا في ذلك الاعتصام كما اختلفت اليهود والنصارى أو يقال إنه نهي على أن يكون ما قبله من الخبر بمعنى الأمر يعني اعتصموا بحبل الله ولا تتفرقوا وكذا الكلام في قوله ولا تشركوا اهـ ابن الملك قال القرطبي قوله (وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا) الاعتصام بالشيء التمسك به والتحرز بسببه وأصل العصمة المنع تقول العرب عصم فلانًا الطعام أي منعه من الجوع وكنوا السويق بأبي عاصم لذلك فالمعتصم بالشيء يمتنع به من أسباب الهلاك والشدائد و (حبل الله) هنا شرعه الَّذي شرعه ودينه الَّذي ارتضاه قال قتادة هو القرآن وهو بمعنى القول الأول والحبل يتصرف على وجوه منها العهد والوصل وما يُنْجَى به من المخاوف ومنها الأمان وكلها متقاربة المعنى لأن الحبل في الأصل واحد الحبال التي تربط بها الآلات ويجمع بها المتفرقات من الأمتعة ثم استعير لكل ما يعول عليه ويتمسك به ثم كثر استعماله في العهد ونحوه ومعنى هذا أن الله تعالى أوجب علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والرجوع إليهما عند الاختلاف وقوله (ولا تفرقوا) أي اجتمعوا على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادًا وعملًا فتتفق كلمتكم وينتظم شتاتكم فتتم لكم مصالح الدين والدنيا وتسلموا من الافتراق والاختلاف الَّذي حصل لأهل الكتابين قال النووي: وهو أمر بلزوم جماعة المسلمين وتألف بعضهم ببعض وهذه إحدى قواعد الإسلام وفيه دليل على صحة الإجماع ويحتمل أن يكون هذا هو الثالث من الأمور الثلاثة بعدُ العبادة وعدم الإشراك واحدًا.