إلى إيلياء قرية بيت المقدس وهو ممدود بهمزة التأنيث ولأجلها منع من الصرف، ويقال إيليا مقصورًا ويقال أليا بوزن عليا ففيه ثلاث لغات ومعناه بيت الله (بقدحين) أي أتى بكأسين مملوءين أحدهما مملوء (من خمر و) ثانيهما مملوء من (لبن) وفي هذه الرواية محذوف تقديره أتي بقدحين فقيل له اختر أيهما شئت (فنظر اليهما فأخذ اللبن) كما جاء مصرحًا به في البخاري، وقد ذكره مسلم في كتاب الإيمان أول الكتاب بلفظ "فألهمه الله تعالى اختيار اللبن" لما أراده سبحانه وتعالى توفيق هذه الأمة واللطف بها فلله الحمد والمنة (فقال له جبريل - عليه السلام - الحمد لله الذي هداك) وفقك (للفطرة) أي لفطرة دين الإسلام (لو أخذت) يا محمد (الخمر) أي قدح الخمر (كوت) وضلت (أمتك) وانهمكت في الشر، فاللبن علامة الهداية والخمر علامة الغواية.
قوله (فأخذ اللبن) قال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نفر من الخمر لأنه تفرس أنها ستحرم، وقال الحافظ في الفتح [١٠/ ٣٣]: ويحتمل أن يكون نفر منها لكونه لم يعتد شربها فوافق بطبعه ما سيقع من تحريمها بعد حفظًا من الله ورعاية واختار اللبن لكونه مألوفًا سهلًا طيبا طاهرًا سائغًا للشاربين سليم العاقبة بخلاف الخمر في جميع ذلك، قال القرطبي: وقول جبريل (الحمد لله الذي هداك للفطرة) يعني فطرة دين الإسلام كما قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا} ثم قال: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} وقيل جعل الله ذلك علامة لجبريل على هداية هذه الأمة لأن اللبن أول ما يغتذيه الإنسان ويدخل بطن المولود ويشق أمعاءه وهو قوت خلي من المفاسد به قوام الأجسام ولذلك آثره صلى الله عليه وسلم على الخمر، ودين الإسلام كذلك هو أول ما أخذ علي بني آدم وهم كالذر ثم هو قوت الأرواح به قوامها وحياتها الأبدية، وصار اللبن عبارة مطابقة لمعنى دين الإسلام من جميع جهاته والخمر على النقيض من ذلك في جميع جهاتها، فكان العدول إليها لو كان ووقع علامة على الغواية وقد أعاذ الله من ذلك نبيه صلى الله عليه وسلم طبعًا وشرعًا والحمد لله تعالى، ويفهم من نسبة الغواية إلى الخمر تحريمها لكن ليس بصريح ولذلك لم يكشف النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك في التحريم حتى قدم المدينة فشربوها زمانًا حتى أنزل الله فيها التحريم اهـ من المفهم.