في عنقه فإن قيل: فأذاه انتهاك حرمة من حرم الله تعالى فكيف يترك الانتقام لله تعالى فيها، وقد قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[التوبة / ٦١] فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم ترك الانتقام ممن آذاه استئلافًا وتركًا لما يُنفّر عن الدخول في دينه كما قال صلى الله عليه وسلم: "لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" كما سبق تخريجه، وقد قال مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعفو عمن شتمه مشيرًا إلى ما ذكرنا وإذا تقرر هذا فمراد عائشة رضي الله تعالى عنها بقولها: (إلا أن تنتهك حرمة الله) الحرمة التي لا ترجع لحق النبي صلى الله عليه وسلم كحرمة الله وحرمة محارمه فإنه كان يقيم حدود الله على من انتهك شيئًا منها ولا يعفو عنها كما قال في حديث السارقة "لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها" متفق عليه، لكن ينبغي أن يُفهم أن صفحه عمن آذاه كان مخصوصًا به وبزمانه لما ذكرناه وأما بعد ذلك فلا يُعفى عنه بوجه، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: أجمع العلماء على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر واختلفوا هل حكمه حكم المرتد؟ فيستتاب أو حكم الزنديق لا يستتاب؟ وهل قتله للكفر أو للحد؟ فجمهورهم على أن حكمه حكم الزنديق لا تقبل توبته وهو مشهور مذهب مالك وقول الشافعي وأحمد وإسحاق ورأوا أن قتله للحد ولا ترفعه التوبة لكن تنفعه عند الله تعالى ولا يسقط حد القتل عنه، وقال أبو حنيفة والثوري: هي كفر وردة وتُقبل توبته إذا تاب وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك.
واختلفوا في الذمي إذا سبه بغير الوجه الذي به كفر فعامة العلماء على أنه يُقتل لحق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو حنيفة والثوري والكوفيون لا يرون قتله، قالوا: ما هو عليه من الكفر أشد، واختلف أهل المدينة وأصحاب مالك في قتله إذا سبه بالوجه الذي به كفر من تكذيبه وجحد نبوته، والأصح الأشهر قتله واختلفوا في إسلام الكافر بعد سبه هل يسقط ذلك القتل عنه أم لا؟ والأشهر عندنا سقوطه لأن الإسلام يَجُبّ ما قبله، وحكى أبو محمد بن نصر في درء القتل عنه بالإسلام روايتين اهـ.
ويستفاد من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ترغيب الحكام وولاة الأمور في الصفح عمن جهل عليهم وجفاهم والصبر على أذاهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل وأن الحاكم لا يحكم لنفسه، وقد أجمع العلماء على أن القاضي لا يحكم لنفسه