(فقال الزبير والله إني لأحسب) وأظن (هذه الآية) الآتية (نزلت في ذلك) الخصام الواقع بيني وبين الأنصاري وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بيننا قوله تعالى: ({فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا})[النساء: ٦٥] وهذا أحد ما قيل في سبب نزول هذه الآية، وقيل: نزلت في رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم على أحدهما فقال: ارفعني إلى عمر بن الخطاب، وقيل إلى أبي بكر، وقيل حكم النبي صلى الله عليه وسلم ليهودي على منافق فلم يرض المنافق، وأتيا عمر بن الخطاب فأخبراه فقال: أمهلاني حتى أدخل بيتي فدخل بيته فأخرج السيف فقتل المنافق، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه رد حكمك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فرّقت بين الحق والباطل" وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في الحدائق فراجعه إن شئت.
ثم إن الأنصاري كان قد استحق التعزير بالإنكار على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عفا عنه تأليفًا للقلوب، وفيه جواز عفو الإمام عن التعزير، وفي هذا الحديث أبواب من الفقه فمنها الاكتفاء من الخصوم بما يُفهم عنه مقصودهم وأن لا يُكلفوا النص على الدعاوي ولا تحديد المدعى فيه ولا حصره بجميع صفاته كما قد تنطع في ذلك قضاة الشافعية، ومنها إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم فإن اصطلحوا وإلا استوفى لذي الحق حقه وبت الحكم، ومنها أن الأولى بالماء الجاري الأول فالأول حتى يستوفي حاجته وهذا إذا لم يكن أصله ملكًا للأسفل مختصًا به فليس للأعلى أن يشرب منه شيئًا وإن كان يمر عليه ومنها الصفح عن جفاء الخصوم ما لم يؤد إلى هتك حرمة الشرع والاستهانة بالأحكام فإن كان ذلك فالأدب وهذا الذي صدر من خصم الزبير أذى للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لما جُبل عليه من عظم حلمه وصفحه ولئلا يكون قتله منفرًا لغيره عن الدخول في دين الإسلام فلو صدر اليوم مثل هذا من أحد في حق النبي صلى الله عليه وسلم لقُتل قتلة زنديق، ومنها أن القدر الذي يستحق الأعلى من الماء كفايته وغاية ذلك أن يبلغ الماء إلى الكعبين اهـ من المفهم.