للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

القول الثاني: أن السعي واجب من واجبات الحج والعمرة، ومَن تَرَكه لزمته الفدية. وبه قال أبو حنيفة، وهو رواية عن مالك، ورواية عن أحمد (١).

القول الثالث: أن السعي بين الصفا والمروة سُنة، لا يَلزم تاركَه شيء. وبه قال أحمد في رواية، ورُوي ذلك عن ابن عباس وأنس وابن الزبير وابن سيرين (٢).

واستدلوا بِقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة: ١٥٨].

فدلت الآية على عدم وجوب السعي من وجهين:

الأول: أَخْبَرَ اللهُ بِرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْجُنَاحِ عَمَّنْ يَطُوفُ بِهِمَا، وَذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا كَانَ مُبَاحًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النساء: ١٠١] فَكَانَ الْقَصْرُ مُبَاحًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا.

ونوقش بما قاله ابن العربي: فَلَمْ يَأْتِ هَذَا اللَّفْظُ لِإِبَاحَةِ تَرْكِ الطَّوَافِ، وَلَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا جَاءَ لِإِفَادَةِ إبَاحَةِ الطَّوَافِ لِمَنْ كَانَ يَتَحَرَّجُ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لِمَنْ كَانَ يَطُوفُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَصْدًا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ؛ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الطَّائِفُ قَصْدًا بَاطِلًا (٣).

وأما الوجه الثاني، فاستدلوا بقراءة ابن مسعود وأُبَيّ وابن عباس، يقرءون: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا) وَهَذِهِ قِرَاءَةُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَوَجَبَ رَفْعُ الجُنَاحِ.


(١) «المبسوط» (٤/ ٥٠)، و «مواهب الجليل» (٧/ ٣١٣)، و «الإنصاف» (٤/ ٥٨).
(٢) «المغني» (٣/ ١٩٤)، و «تفسير الطبري» (٢/ ٥٠)، و «المجموع» (٨/ ٨١)، و «الحاوي» (٤/ ١٥٥).
(٣) «أحكام القرآن» لابن العربي (١/ ٧٢). فهذه الآية نزلت في الأنصار، فعن عائشة قالت: أُنْزِلَتْ فِي الأَنْصَارِ، كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ، الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ المُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا، سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٥٨]. رواه البخاري (١٦٤٣)، ومسلم (١٢٦١).

<<  <   >  >>