للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وروى البخاري: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا» (١).

وروى أبو داود: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: « … ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يَرْمِي الْجَمْرَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ» (٢).

فدلت هذه الأحاديث على أن رمي النبي كان بعد الزوال، ولم يَثبت عنه أنه رمى قبل الزوال، والرمي عبادة محضة لا تُدرَك بالعقل ولا تُعْرَف بالقياس، فيجب فيها اتباع النقل، وقد قال النبي : «لتأخذوا مناسككم».

ونوقش بأنَّ فِعل النبي المجرد عن الأمر والنهي- لا يدل على وجوب تحديد وقت الرمي بالزوال؛ لأن أفعال النبي منها الأركان، ومنها الواجبات، ومنها المستحبات، فالرَّمَل والاضطباع ودعاء الطواف كل هذه مستحبات بالإجماع، فقد يكون الرمي بعد الزوال سُنة، ويَجوز قبل الزوال.

وأجيب عنه بأَنَّ فِعل النبي إذا احتفت به القرينة الدالة على الوجوب، فإنه واجب، ورَمْي النبي الجمار بعد الزوال احتفت به قرائن تدل على وجوبه:

الأولى: أن النبي بادر بالرمي بعد الزوال وقبل صلاة الظهر، وكأنه يترقب زوال الشمس ليرمي ثم يصلي الظهر، فهذا دليل على عدم جواز الرمي قبل الزوال. ولو جاز لفَعَله لكي يصلي الظهر في أول وقتها.

الثانية: لو كان يَجوز الرمي قبل الزوال، لفَعَله النبي ولو مرة بيانًا للجواز؛ لأنه لا يَجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولِما فيه من التيسير على العباد؛ فإن الرمي في الصباح أيسر على الأمة؛ لأنه بعد الزوال يشتد الحر ويشق على الناس، فلا يمكن أن يختار النبي الأشد ويَدَع الأخف؛ لأن النبي ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، ولو كان يحل الرمي قبل الزوال، لاختاره النبي تيسيرًا على أمته.

الثالثة: أن العبادات مبناها على التوقيف، ولم يَرِد أن الرسول وصحابته ومَن تبعهم أنهم رَمَوْا قبل الزوال، وقد قال النبي : «لتأخذوا مناسككم».

الرابعة: أنه لو كان يَجوز الرمي قبل الزوال، لبَيَّن ذلك النبي للتوسيع على أمته،


(١) أخرجه البخاري (١٧٤٦).
(٢) إسناده حسن: رواه أبو داود (١٩٧٣)، وقد سبق تخريجه.

<<  <   >  >>