للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فهو القائل: «نَحَرْتُ هنا، ومِنًى كلها مَنْحر» فوَسَّع على أمته، ولم يَرِد أنه قال: (رَميتُ في هذا الوقت، وقبل الزوال يجزئ) فوجب الالتزام بفعله .

وأما دليلهم من المأثور على عدم جواز تقديم رمي الجمار في أيام التشريق قبل الزوال، فهو قول ابن عمر: «كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا» فتَرقُّب الزوال والانتظار مع شدة الحر لا يكون إلا انتظارًا لبداية وقت الرمي، وإلا كان عَبَثًا وهَدْرًا للأوقات، فلو كان يجوز الرمي قبل الزوال، لفَعَله الصحابة ولدَلَّهم عليه النبي (١).

وأما القياس، فكما أنه لا يَجوز الرمي في مكان غير المكان الذي رمى فيه النبي ، فكذا لا يَجوز الرمي في غير الزمن الذي رمى فيه النبي ، وهو الرمي بعد الزوال في أيام التشريق. وكما أنه لا يَجوز صلاةٌ قبل وقتها، فكذا لا يَجوز الرمي قبل الزوال.

القول الثاني: أن الرمي قبل الزوال جائز في سائر أيام التشريق. وهو قول عند الحنفية، وقول بعض الشافعية وبعض الحنابلة (٢).

واستدلوا بالكتاب والسُّنة والمعقول والقياس:

أما الكتاب، فعموم قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٠٣].

وَجْه الدلالة: فمَن تَعَجَّل في اليوم الثاني عشر، فرَمَى الجمار قبل الزوال، ثم خرج من مِنًى، فالآية تَشهد بصحة فعله؛ لأن لفظ (اليوم) يَعُم أول النهار وآخِره.

واعتُرض عليه بأن لفظ (اليوم) وإن دل على أول النهار وآخِره، فإِنَّ فِعل النبي مُبيِّن لعموم القرآن، ومُفسِّر له، بأن وقته بعد الزوال، فوجب أن يُحْمَل لفظ الذِّكر ورمي الجمار المطلق على فعل النبي ، الذي قَيَّده بالرمي بعد الزوال، كما يطلق على يوم العيد يوم الأضحى، ولا يَجوز ذبح الأضحية قبل صلاة العيد.

وأما السُّنة، فَعَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ رَخَّصَ لِرِعَاءِ الإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ، وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ بِيَوْمَيْنِ، وَيَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ (٣).


(١) صح عن ابن عمر عند مالك (١٢١٩) أنه قال: لَا تُرْمَى الْجِمَارُ فِي الأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ.
(٢) «بدائع الصنائع» (٢/ ١٣٧)، و «تحفة المحتاج» (٤/ ١٣٨)، و «الفروع» (٦/ ٥٩٠). وهو قول الجُويني والرافعي من الشافعية، وابن الجوزي من الحنابلة، وبه قال عطاء وطاوس، كما في «الفتح» (٣/ ٦٧٨).
(٣) إسناده صحيح: أخرجه مالك (١٢٢٠)، وأبو داود (١٩٧٥)، مِنْ طريق الْقَعْنَبِيّ وابن وهب بهذا اللفظ، وأحمد (٢٣٧٧٥)، والترمذي (٩٥٥) من طريق عبد الرزاق بلفظ: ثُمَّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَيَرْمُونَهُ فِي أَحَدِهِمَا. قَالَ مَالِكٌ: ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَالَ: فِي الأَوَّلِ مِنْهُمَا، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ.
وهناك كلام مُعارِض لهذا، فقد قال مالك: وَتَفْسِيرُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَرْخَصَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ رَمْيَ الْجِمَارِ، فِيمَا نُرَى، وَاللهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُمْ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ، رَمَوْا مِنَ الْغَدِ، وَذَلِكَ يَوْمُ النَّفْرِ الأَوَّلِ، يَرْمُونَ لِلْيَوْمِ الَّذِي مَضَى، ثُمَّ يَرْمُونَ لِيَوْمِهِمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي أَحَدٌ شَيْئًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَمَضَى، كَانَ الْقَضَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ بَدَا لَهُمُ النَّفْرُ فَقَدْ فَرَغُوا، وَإِنْ أَقَامُوا إِلَى الْغَدِ، رَمَوْا مَعَ النَّاسِ يَوْمَ النَّفْرِ الآخِرِ، وَنَفَرُوا. «موطأ مالك» (١/ ٥٤٦).

<<  <   >  >>