للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يقول ابن القيم في وصفِ يوم عرفة:

فلله ذاك الموقف الأعظم الذي … كموقفِ يوم العَرْض بل ذاك أعظمُ

ويدنو به الجبارُ … يُباهِي بهم أملاكَه فَهْو أَكْرَمُ

يقول: عبادي قد أتَوْنيِ محبة … وإني بهم بَرٌّ أَجُودُ وأُكْرِمُ

فأُشْهِدكم أني غفرتُ ذنوبهم … وأعطيتُهم ما أَمَّلُوه وأُنْعِمُ

يسعى الحاج بين الصفا والمروة استذكارًا لسعيِ هاجر أُم إسماعيل؛ فإنها لَمَّا استسلمت لأمر اللهِ وانقادتْ لمشيئتِه، رَفَع اللهُ قَدْرها وأعلى شأنها، وأزال عنها البأساء والضراء، ومَنَحها وابنَها الخير والرخاء.

أخرجَ البخاريُّ عن ابنِ عباسٍ ، قال: «جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بِهَاجَرَ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ ، وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ، عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا» ولم يضيعهما الله، حيث فَجَّر لهما زمزم، وأَسْبَغَ عليهما مِنْ بركاته وأَنْعَمَ، واجتمع الناس إليهم من كل سبيلٍ، فتحققت بذلك دعوة أبينا إبراهيم الخليل: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: ٣٧]، وما زالت زمزم- والحمد لله بَرَكة مِنْ إنعام الله عليهما، وأثرًا طيباً مِنْ آثارهما.

فتُذكِّرنا الصفا والمروة وزمزم بهاجر التي ضربت أروع الأمثلة في التوكل في الله، حينما قالت لزوجها: «آللهُ أمرَك بهذا؟ قال: نعمْ. قالت: إذنْ لا يُضَيِّعُنا» لم تَجعل عَقْدها مع إبراهيم، بل جَعَلَتْ عَقْدها مع الله، فلم تَشترط شروطًا؛ لعِلمها أن الله لا يضيعها، تَرَكها إبراهيم في وادٍ غير ذي زرع، لا أُنس ولا أنيس؛ لأنه عَقَد عقدًا مع الله، ومَن تَوكَّل على الله، فإنه يَنال من فضائله وثمراته بحَسَب تحقيقه له، ما لا يَخطر له على بال ولا يدور في خيال، ولا يحيط به مقال.

<<  <   >  >>