جحْرِها للفساد، وهو في الشرع: خروجٌ مذمومٌ بحسب المخروج منه، فإِنْ كان إِيمانًا .. فذلك الفسق كُفْر، وإِن كان غيرَ إِيمانٍ .. فذلك الفسق معصية، وقُرئ في السبع {فَتَبَيَّنُوا} من البيان و {تَثَبَّتُوا) من التثبُّت، وكلاهما بمعنىً متقارب.
ولم يختلف نَقَلَةُ الأخبار -فيما عَلِمْتُ- أَنَّ هذه الآيةَ نزلتْ بسبب الوليد بن عقبة، بَعَثَه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلى بني المُصْطَلِق مُصَدِّقًا، فلمَّا أبصروه .. أقبلوا نحوه فهابهم؛ لإِحْنَةٍ وعداوةٍ كانتْ بينهم في الجاهلية.
وقيل: إِنهم لم يخرجوا إِليه، وأُخْبِرَ أنهم ارْتَدُّوا -ذكره أبو عُمر بن عبد البَرّ- فَرَجَعَ إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم ارتدُّوا ومنعوا الزكاة، فَبَعَثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خالدَ بنَ الوليد وأَمَرَه بالتثبُّتِ في أَمْرِهم، فأتاهم ليلًا فسمع الأذان، ووَجَدَهم يُصَلُّون، وقالوا له: قد اسْتَبْطَأْنا المُصَدِّقَ وخِفْنا غَضَبَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فرجع خالدٌ إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فنزلت الآية.
ومقتضى الآيةِ: أَنَّ الفاسق لا يُقبل خبرُه روايةً كان أو شهادةً، وهو مُجْمَعٌ عليه في غير المتأوِّل، ما خلا ما حُكي عن أبي حنيفة من حُكْمِه بصحة عقد النكاح الواقع بشهادة فاسقين، وحكمة ذلك أن الخبر أمانة، والفسق خيانة، ولا يُوثق بخَؤُوْنٍ.
وقال الفقهاء: لا يقبل قولُه؛ لأنَّ جُرْأَته على الفسق تخرِم الثقةَ بقوله، فقد يجترئ على الكذب كما اجترأ على الفسق، فأمَّا الفاسق المتأوِّل الذي لا يَعْرِفُ فِسْقَ نفسِه، ولا يُكَفَّر ببدعته .. فقد اختُلف في قبول قوله، فقَبِلَ الشافعيُّ شهادتَه، ورَدَّهَا أبو بكر بنُ العربي المعافري صاحب "العواصم"، وفَرَّقَ مالكٌ بين أن يدعوَ إِلى بدعته فلا تقبل، أو لا يدعو فتُقبل، ورُوي عنه: أنه لا تُقبل شهادتُهم مطلقًا، وكُلُّهم اتفقوا على أَنَّ من كانتْ بِدْعَتُه تُجَرِّئُه على الكذب كالخطابية من الرافضة .. لم تُقبل روايتُه ولا شهادتُه) (١) كما مَرَّ عن النووي.
(١) "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (١/ ١٠٧ - ١٠٨).