إن شاء غفر وإن شاء عذب، فمن لم تصل أعماله المنكرة إلى أن تكون ملكات له، فالله يغفرها له، ومن تكون كذلك فالله يعاقبه عليها، وهو المختار يفعل ما يشاء كما قال {فَيَغْفِرُ} أي فهو يغفر بفضله {لِمَنْ يَشَاءُ} أن يغفر له، وإن كان ذنبه كبيرًا و {وَيُعَذِّبُ} بعدله {مَنْ يَشَاءُ} أن يعذبه وإن كان ذنبه حقيرًا، حسبما تقضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح، ويعذب الكفار لا محالة، لأنه لا يغفر الشرك، وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه، والذنب المغفور هو الذي يُوفق صاحبه لعملٍ صالحٍ يغلب أثره في النفس، وليس الأمر كما يزعم الجاهلون: أن الأمور فوضى، والكيل جزاف، فيقيمون على الذنوب، ويُصرون عليها ويمنون أنفسهم بالمغفرة {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} فكمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته تعالى على ما ذكر من المحاسبة، وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب.
(قال) أبو هريرة (فاشتد ذلك) المذكور في هذه الآية من المحاسبة على ما في أنفسهم سواء أبدوه أو أخفوه، قال المازري: اشتد عليهم لظنهم أنهم كلفوا بالتحفظ من الخطرات، والتكليف بذلك من تكليف ما لا يطاق، لأن الخطرات لا يقدر على دفعها، فإن كان هذا هو المراد فالحديث يدل على أنهم كلفوا بما لا يطاق، وهو عندنا جائز، وإنما اختلف في وقوعه اهـ.
قال النواوي: ولفظة (قال) مكررة مع الأولى، وإنما أعادها لطول الكلام، والفاء في قوله (فاشتد ذلك) زائدة في جواب لما.
ولفظ رواية أحمد في مسنده: عن أبي هريرة قال: "لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" بحذف قال، وإسقاط الفاء.
أي شق ذلك الذي نزل وثقل (على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) وجاؤوا مجلسه (ثم بركوا) أي جلسوا (على الركب) تأدبًا في حضرته صلى الله عليه وسلم، والركب جمع ركبة وهي المفصل بين الساق