صلى الله عليه وسلم إنما كانت لأجل التقرب لا على أن النبوة مكتسبة. اهـ قسطلاني، وأتى بـ (ثم) للتنبيه على تفاوت ما بين هذا المقام والمقام الأول لأن المقام الأول وقع فيه الإيحاء نومًا وهذا المقام وقع فيه الإيحاء يقظة و (الخلاء) بالمد مصدر بمعنى الخلوة أي الاختلاء وهو بالرفع نائب عن الفاعل وإنما أسند الفعل (حبب) إلى المفعول (الخلاء) اختصارًا للعلم بأن لا فاعل إلا الله جل وعلا وإنما لم يقل أحب الخلاء وإن كان أخصر لما في الأول من التنبيه على عظيم اعتناء الله تعالى به في تخصيصه بأشرف مقام من الانقطاع إليه بالعبادة وعدم الخوض فيما عليه طباع أهل الأرض في ذلك الزمان فاعتناؤه جل وعلا بنبيه صلوات الله وسلامه عليه هو الذي خلصه من طباع أبناء جنسه من المخلوقات حتى لم تكن له همة إلا في طاعته جل وعلا والتقرب إليه بلذيذ المناجاة، لا سيما إن قلنا إن خلوه للعبادة بغار حراء كان قبل الإيحاء إليه كما هو ظاهر كلام أهل الأصول ففيه من القرابة وعظيم التشريف له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى وعلى هذا يكون العطف بـ (ثم) لترتيب الإخبار لا للمهلة في الزمان.
(فكان) صلى الله عليه وسلم (يخلو) أي يختلي عن الناس ويتجرد للعبادة (بغار حراء) في نقبه وكهفه بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد، وحكى الأصيلي فتحها والقصر وعزاها في القاموس للقاضي عياض قال وهي لغية وهو مصروت إن أريد المكان وممنوع إن أريد البقعة فهي أربعة التذكير والتأنيث والمد والقصر وكذا حكم قباء وقد نظم بعضهم أحكامهما في بيت فقال:
حرا وقبا ذكر وأنثهما معا ... ومد أو اقصر واصرفن وامنع الصرفا
قال الخطابي: والمحدثون يغلطون فيه في ثلاثة مواضع يفتحون الحاء وهي مكسورة ويكسرون الراء وهي مفتوحة ويقصرونه وهو ممدود، وحراء جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى، والغار نقب فيه وكهف يجمع على غيران والمغار والمغارة بمعنى الغار وتصغير الغار كوير، وجملة قوله (يتحنث فيه) أي يتعبد فيه أي في غار حراء في محل النصب خبر ثان لي (كان) أو حال من فاعل (يخلو)، وفي رواية البخاري (فيتحنث فيه) بالفاء العاطفة وهو بالحاء المهملة آخره مثلثة: التعبد كما سيأتي من الراوي وهو في أصله من الأفعال التي معناها السلب أي اجتناب فاعلها لمصدرها مثل تأثم وتحوب إذا اجتنب الإثم والحوب فمعنى يتحنث يجتنب الحنث