وأصل الحنث الإثم فكأنه بعبادته يمنع نفسه من الحنث أي الذنب، أو هو بمعنى يتحنف بالفاء أي يتبع الحنيفية دين إبراهيم والفاء تبدل ثاء مثلثة، والضمير في قوله (وهو التعبد) عائد إلى مصدر يتحنث أي والتحنث التعبد أي الاشتغال بالعبادة، وأصل التعبد تذلل العبد لسيده وخضوعه له بامتثال أوامره ونواهيه بلا معرفة لحكمتها وهذا التفسير للزهري أدرجه في الخبر كما جزم به الطيبي وقوله (الليالي أولات العدد) منصوب على الظرفية متعلق بقوله (يتحنث) لا بالتعبد لأن التعبد لا تشترط فيه الليالي بل مطلق التعبد، و (أولات) نصب بالكسرة على أنه صفة الليالي لأنه من ملحقات جمع المؤنث السالم، وفي رواية البخاري ذوات العدد وهما واحد في الحكم والمعنى أي فيتحنث ويشتغل بالعبادة في غار حراء الليالي صواحب العدد القليل مع أيامهن واقتصر عليهن للتغليب لأنهن أنسب للخلوة، ووصف (الليالي) بـ (أولات العدد) لإرادة التقليل كما في قوله تعالى: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} أو للكثرة لاحتياجها إلى العدد وهما المناسب للمقام، وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله وأقل الخلوة ثلاثة أيام وتأمل ما للثلاثة في كل مثلث من التكفير والتطهير والتنوير ثم سبعة أيام ثم شهر لما عند المؤلف والبخاري "جاورت بحراء شهرًا" وعند ابن إسحاق أن ذلك العدد شهر رمضان.
فإن قلت أمر الغار قبل الرسالة فلا حكم له (أجيب) لأنه أول ما بدئ به صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء كما مر فدل على أن الخلوة حكم مرتب على الوحي لأن كلمة (ثم) للترتيب.
(فإن قلت) لم خص حراء بالتعبد فيه دون غيره، قال ابن أبي جمرة: لمزيد فضله على غيره لأنه مجموع له فيه التحنث والخلوة والنظر إلى الكعبة المعظمة والنظر إليها عبادة فكان له صلى الله عليه وسلم فيه ثلاث عبادات الخلوة والتحنث والنظر إلى الكعبة. اهـ من القسطلاني بتصرف.
وقوله (قبل أن يرجع إلى أهله) وعياله متعلق بـ (يتحنث)، وقوله (ويتزود) أي ويأخذ الزاد (لذلك) التحنث أو التعبد بالرفع عطفًا على (يتحنث) أي فكان يتحنث في غار حراء الليالي أولات العدد قبل أن يحن ويشتاق ويرجع إلى عياله وكان يتزود أي