يتخذ زادًا ذلك التحنث أو للخلوة قبل خروجه إلى حراء (ثم) بعد تحنثه تلك الليالي (يرجع إلى خديجة) رضي الله تعالى عنها (فيتزود) أي يأخذ الزاد (لمثلها) أي لمثل تلك الليالي، وتخصيص خديجة بالذكر بعد أن عبر بالأهل يحتمل أنه تفسير بعد الإبهام أو إشارة إلى اختصاص التزود بكونه من عندها دون غيرها، وفيه أن الانقطاع الدائم عن الأهل ليس من السنة لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينقطع في الغار بالكلية بل كان يرجع إلى أهله لضروراتهم ثم يخرج لتحنثه.
واختلف في عبادة النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه هل كانت بشريعة من قبله أم كانت بما جعل الله سبحانه وتعالى في نفسه وشرح به صدره من نور المعرفة ومن بغضه لما كان عليه قومه من عبادة الأوثان وسوء السيرة وقبح الأفعال فكان يفر منهم بغضًا ويخلو بمعروفه أنسًا، ثم الذين قالوا إنه كان متعبدًا بشريعة من قبله فمنهم من نسبه إلى إبراهيم ومنهم من نسبه إلى موسى ومنهم من نسبه إلى عيسى وكل هذه أقوال متعارضة لا دليل قاطع على صحة شيء منها والأصح القول الثاني أي أنها بإلهام من الله تعالى لأنه لو كان متعبدًا بشيء من تلك الشرائع لعلم انتماؤه لتلك الشريعة ومحافظته على أحكامها وأصولها وفروعها ولو علم شيء من ذلك لنقل، إذ العادة تقتضي ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ممن تتوفر الدواعي على نقل أحواله وتتبع أموره، ولما لم يكن شيء من ذلك علم صحة القول الثاني.
وقوله (حتى فجئه) الأمر (الحق) وهو الوحي غاية للتحنث أي كان يتحنث في غار حراء حتى جاءه الوحي بغتة وأتاه مرة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متوقعًا للوحي، يقال فجئ بكسر الجيم يفجأ من باب علم وفجأ يفجأ بفتحها في الماضي والمضارع من باب فتح، وقوله (وهو) صلى الله عليه وسلم (في كار حراء) للتحنث جملة حالية (فجاءه الملك) وهو جبريل الأمين - عليه السلام - يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان وهو ابن أربعين سنة كما رواه ابن سعد، والفاء في قوله (فجاءه) تفسيرية كهي في قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وتفصيلية أيضًا لأن المجيء تفصيل للمجمل الذي هو مجيء الحق (فقال) الملك له صلى الله عليه وسلم (اقرأ) يا محمد، يحتمل أن يكون هذا