الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه وأن يكون على بابه من الطلب، فيستدل به على تكليف ما لا يطاق في الحال وإن قدر عليه بعد (قال) النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية (قلت) وهو المطابق لمقتضى السياق (ما أنا بقارئ) أي لست عارفًا بالقراءة، وفي رواية "ما أحسن أن أقرأ" فـ (ما) نافية واسمها (أنا) وخبرها (بقارئ) وضعف كونها استفهامية بدخول الباء في خبرها وهي لا تدخل على ما الاستفهامية، وأجيب بأنها استفهامية بدليل رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال:"كيف أقرأ"، وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق "ماذا أقرأ" وبأن الأخفش جوز دخول الباء الزائدة على الخبر المثبت، قال ابن مالك في (بحسبك زيد) إن زيدا مبتدأ مؤخر لأنه معرفة وحسبك خبر مقدم لأنه نكرة والباء زائدة.
(قال) صلى الله عليه وسلم (فأخذني) جبريل - عليه السلام - أي أمسكني إمساكًا شديدًا (فغطني) بالغين المعجمة ثم المهملة أي ضمني وعصرني، وعند الطبراني "فغتني" بالمثناة الفوقية بدل الطاء وهو حبس النفس وهو بمعنى غطني، قال ابن الأنباري: معنى "غتني" ضغطني وكأنه يضارع غطني، لأن المضغوط يبلغ منه الجهد وكذلك المغتوت، وفي "العين" غطه في الماء وغمسه، وفي حديث آخر "يغتهم الله في العذاب الأليم" أي يغمسهم ويقال غطه وغته وخنقه وغطسه بمعنى واحد (حتى بلغ) الغط (مني الجهد) أي الغاية والمشقة، والجهد بفتح الجيم ونصب الدال على أنه مفعول به لـ (بلغ) وفاعله ضمير الغط أي حتى بلغ ووصل الغط مني الجهد أي غاية وسعي ونهاية مشقتي، ويروى "الجُهد" بالضم والرفع أي بلغ مني الجهد مبلغه وغايته فهو فاعل، وهذا الغط من جبريل - عليه السلام - إشغال له عن الالتفات إلى شيء من أمور الدنيا وإشعار بالتفرغ لما أتاه به، وفعلُ ذلك ثلاثًا فيه تنبيه على استحباب تكرار التنبيه ثلاثًا، وقد استدل به بعضهم على جواز تأديب المعلم للمتعلمين ثلاثًا، وقال أبو سليمان: وإنما فعل ذلك ليبلو صبره ويحسن تأديبه فيرتاض لاحتمال ما كئفه من أعباء الرسالة ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم وياخذه الرحضاء أي البهر والعرق، قال: وذلك يدل على ضعف القوة البشرية والوجل لتوقع تقصير فيما أمر به وخوف أن يقول غيره. اهـ من الإكمال.
(ثم أرسلني) أي أطلقني (فقال) لي جبريل ثانيًا (اقرأ، قال: قلت) وفي رواية