تصديقًا جازمًا لا ريب فيه ولا تردد ولا توقف كان مؤمنًا حقيقة، وسواء كان ذلك عن براهين ناصعة أو عن اعتقادات جازمة، على هذا انقرضت الأعصار الكريمة وبهذا صرحت فتاوى أئمة الهدى المستقيمة حتى حدثت مذاهب المعتزلة المبتدعة فقالوا: إنه لا يصح الإيمان الشرعي إلَّا بعد الإحاطة بالبراهين العقلية والسمعية وحصول العلم بنتائجها ومطالبها، ومن لم يحصل إيمانه كذلك فليس بمؤمن، ولا يجزئ إيمانه بغير ذلك، وتبعهم على ذلك جماعة من متكلمي أصحابنا كالقاضي أبي بكر، وأبي إسحاق الإسفرايني وأبي المعالي في أول قوليه، والأول هو الصحيح، إذ المطلوب من المكلفين ما يطلق عليه إيمان كقوله تعالى:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}[النساء: ١٣٦] وقوله: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}[الفتح: ١٣].
والإيمان هو التصديق لغة وشرعًا فمن صدق بذلك كله ولم يجوِّز نقيض شيء من ذلك فقد عمل بمقتضى ما أمره الله به على نحو ما أمره الله تعالى ومن كان كذلك فقد تَقَصَّى عن عهدة الخطاب، إذ قد عمل بمقتضى السنة والكتاب، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده حكموا بصحة إيمان كل من آمن وصدق بما ذكرناه ولم يفرقوا بين من آمن عن برهان أو عن غيره، ولأنهم لم يأمروا أجلاف العرب بترديد النظر ولا سألوهم عن أدلة تصديقهم ولا أرجئوا إيمانهم حتى ينظروا وتحاشوا عن إطلاق الكفر على أحد منهم بل سموهم المؤمنين والمسلمين، وأجروا عليهم أحكام الإيمان والإسلام، ولأن البراهين التي حررها المتكلمون ورتبها الجدليون إنما أحدثها المتأخرون، ولم يَخُض في شيء من تلك الأساليب السلف الماضون فمن المحال والهذيان أن يُشترط في صحة الإيمان ما لم يكن معروفًا ولا معمولًا به لأهل ذلك الزمان وهم من هم فهمًا عن الله تعالى وأخذًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبليغًا لشريعته، وبيانًا لسنته وطريقته اهـ من القرطبي.
(قال) الرجل السائل (صدقت) يا محمد، أي نطقت كلامًا صادقًا فيما أخبرت به من الإيمان ثم (قال) الرجل (فأخبرني) يا محمد (عن) حقيقة (الإحسان) قال القاضي عياض: يعني بالإحسان الإخلاص لأنه فسره بما معناه ذلك، قال الأبي: وقيل يعني به إجادة العمل من أحسن في كذا إذا أجاد فعله، وهو بهذا التفسير أخص من الأول، ثم هو سؤالٌ عن الحقيقة ليعلمها الحاضرون كالذي قبله (قال) رسول الله صلى الله عليه