ذلك ما يشق ويثقل عليه فظهر لهم أن الأولى أن لا يكتب، وأرادت الطائفة الأخرى أن يكتب متمسكة بظاهر الأمر واغتنامًا لزيادة الإيضاح ورفع الإشكال فيا ليت ذلك لو وقع وحصل ولكن قدر الله وما شاء فعل ومع ذلك فلا عتب ولا لوم على الطائفة الأولى إذ لم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذمهم بل قال للجميع: دعوني فالذي أنا فيه خير وهذا نحو مما جرى لهم يوم الأحزاب حيث قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فتخوّف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، قال: فما عنَّف واحدًا من الفريقين، وسبب ذلك أن ذلك كله إنما حمل عليه الاجتهاد المسوّغ والقصد الصالح وكل مجتهد مصيب أو أحدهما مصيب والآخر غير مأثوم بل مأجور كما قررناه في الأصول اهـ من المفهم.
وقوله:(فتنازعوا) إلى قوله: قال: دعوني مدرج من كلام ابن عباس أي قال ابن عباس: فتنازع الحاضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا في إحضار الكتف والدواة وفي تركها، فقال بعضهم: نأتي بهما، وقال الآخرون: لا تأتوا بهما فتتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفعت أصواتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (وما ينبغي) أي والحال أنه لا ينبغي ولا يليق (عند نبي) من الأنبياء (تنازع) أي اختلاف ولغط وارتفاع أصوات لما فيه من إساءة الأدب، وفي هذا إشعار بأن الأولى المبادرة إلى امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأن لا يتوقف في شيء منه إذا فهم مقصوده ولم يُشْكل منه شيء كيف لا؟ وهو المُبَلِّغ عن الله أحكامه ومصالح الدنيا والدين اهـ من المفهم (وقالوا): أي وقال الذين يريدون الكتابة لمن لا يريدها (ما شأنه) صلى الله عليه وسلم وحاله وكلامه هل هو مختلط أم صحيح (أ) تظنون أنه (هجر) واختلط كلامه لشدة المرض بل كلامه صحيح (استفهِموه) أي اطلبوا منه فهم ما يقول ويريد فاكتبوه، وقوله:(أهجر) بفتحتين على أنه ماض مقرون بهمزة الاستفهام الإنكاري، قال ابن الأثير: معناه هل تغير كلامه واختلف واختلط لأجل ما به من شدة المرض اهـ وهذه هي الرواية الصحيحة، وروى بعضهم:(أهُجُرًا) بضمتين وبالتنوين مع الهمزة على أنه مفعول أي أقال هجُرًا، والهجُرُ هذيان المريض وهو الكلام الذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم فائدته ووقوع مثل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم في حال مرضه أو صحته