وجوابه هو: أنها مع اختلافها وتباين أحوالها لا يمتنع كونها دالّة على حقيقة واحدة، وهذا غير ممتنع، فإن الأشياء المتغايرة قد تكون دالّة على معنى واحد كالألفاظ المترادفة، ويؤيد ما ذكرناه هو أن التعريفات التصوّرية طريق إلى فهم الحقائق التصورية. كما كانت البراهين التصديقية طريقا إلى معرفة المدلولات، فإذا جاز اجتماع البراهين على مدلول واحد جاز اجتماع التعريفات على ماهية واحدة فاختلاف كل واحد من النوعين لا يمنع من اتحاد المقصود.
[المطلب الثانى فى بيان موضوع علم البيان]
اعلم أن لكل علم من العلوم موضوعا يكون له كالأساس فى البناء. وبه تظهر حقيقته. ومنه يتقدّر قوام صورته. وعلى هذا يكون موضوع علم الطبّ بدن الإنسان.
ولهذا فإن الطبيب يسأل عنه ليدرى بحاله فى صحته وفساده. وموضوع علم الفقه هو أفعال المكلفين، فالفقيه يسأل عن حالها فيما يعرض لها من الحسن والقبح والوجوب والندب والكراهة والإباحة. وموضوع أصول الفقه هو النظر فى أدلة الخطاب من الكتاب والسنة. وما يكون مقرّرا عليها من الإجماعات والأقيسة والأفعال والتقريرات. فالأصولىّ يقصر نظره على ما ذكرناه. وموضوع علم الكلام هو النظر فى أفعال الله تعالى وما يصدر عن قدرته من المكونات كلها والمصنوعات فيحصل له العلم بذاته فنظره مقصور على ذلك.
وموضوع علم العربية هو الألفاظ الموضوعة من جهة تركيبها فهو يسأل عن حالها.
وهكذا فإن موضوع اللغة هو معرفة الألفاظ المفردة فاللغوىّ يسأل عن ذلك. فكلّ علم له موضوع يخالف موضوع الآخر. ومن ثم كانت حقيقة كل واحد منها مباينة لحقيقة الآخر لأنها باختلاف موضوعاتها اختلفت حقائقها وتمايزت فى أنفسها.
وكما يجرى هذا فى العلوم فإنه جار فى الحرف والصناعات لأنها من جملة العلوم، ولهذا فإنّ النجارة موضوعها الخشب. فإن النجار ينظر فى حالها فى تحصيل حقيقة النّشر.
والحدّاد موضوع صنعته الحديد فينظر فى حاله إذا أراد تركيب السّيف والشّفرة. وموضوع النساجة القطن. والكتان. فالنّساج ينظر فى حالهما من أجل تحصيل قوام الثوب وصورته وهذه القضية عامّة فى كل علم وحرفة. فإنه لا يمكن تحصيل شىء من أحواله إلا بعد إحراز موضوعه الذى هو أصل فيه.