سريت ونومى فيه نوم مشرّد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه
على أولق فيه التفات كأنه ... أبو جابر فى خبطه وجنونه
إلى أن بدا وجه الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه
فانظر إلى ما أودعه فى هذه الأبيات من هجاء هؤلاء الثلاثة فى أبيات ثلاثة وتخلص فى البيت الرابع بأحسن الخلاص فى مدح شرف الدولة، وهذه الأبيات أحسن ما يورد فى أمثلة التخليص. فهذا ما أردنا ذكره فى أمثلة التخليصات.
الضرب الثانى فى [الاقتضاب]
وهو نقيض التخليص، وذلك أن يقطع الشاعر كلامه الذى هو بصدده ثم يستأنف كلاما آخر غيره من مديح أو هجاء أو غير ذلك من أفانين الكلام، لا يكون بين الأول والثانى ملائمة ولا مناسبة، وهذا هو مذهب الشعراء المتقدمين من العرب كامرىء القيس والنابغة وطرفة ولبيد، ومن تلاهم من طبقات الشعراء، فأما المحدثون من الشعراء كأبى تمام وأبى الطيب وغيرهم ممن تأخر فإنهم تصرفوا فى التخليصات فأبدعوا فيها وأظهروا كل غريبة كما أسلفنا تقريره، ولنذكر أمثلة الاقتضاب، فمن كتاب الله تعالى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠)
[ص: ٤٥- ٥٠] فصدر الكلام أولا بذكر الأنبياء والثناء عليهم ثم ذكر بعده بابا آخر غير ذلك لا تعلق له بالأول، وهو ذكر الجنة وأهلها، ثم لما أتم ذكره عقبه بذكر النار وأهلها بقوله هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥)
[ص: ٥٥] فانظر إلى هذا الاقتضاب الرائق، والذى حسن من موقعه لفظة «هذا» فإنها جعلت له موقعا أحسن من التخليص، وورودها فى المنثور أكثر من ورودها فى المنظوم، وقد قررنا فيما سبق حسن موقعها، ومن محاسن الاقتضاب قول القائل: أما بعد حمد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على رسوله فإنها تأتى لقطع الكلام الأول عن الثانى، وهذه اللفظة قد أجمع أهل التحقيق من علماء البيان على أنها هى فصل الخطاب الذى أراد