وأكثر كلامه عليه السلام فى أعلا طبقات الفصاحة، وأسمى مراتب البلاغة، فأما قوله عليه السلام عند لقاء عدوه اللهم قد صرح بمكنون الشنآن، وجاشت مراجل الأضغان فهاتان استعارتان لشدة البغضاء وتمكن العداوة وتأكدها فى الأفئدة، فهما على ما اختصا به من النظم والاتساق، وقصر اللفظ وبلاغة المعانى، لا يقدران بقيمة ولا يوزنان بأنفس الأثمان كما ترى.
ومن كلام له عليه السلام يخاطب به معاوية ويذكر فيه توجعه على بنى هاشم، فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل، ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب، فعزم الله لنا على الذب عن حوزته، والرمى من وراء حرمته، مؤمننا يبغى بذلك الأجر، وكافرنا يحامى عن الأصل، ومن أسلم من قريش خلو مما نحن فيه بحلف يمنعه أو عشيرة تقوم دونه، فهو من القتل بمكان أمن، وكان رسول الله إذا احمر الباس، وأحجم الناس قدم أهل بيته، فوقى بهم أصحابه حر السيوف والأسنة.
فعلى الناظر إعمال فكرته الصافية، وشحذ عزيمته الماضية، فإذا فعل ذلك وعزل عن نفسه سلطان الحمية، وحمى جانبه عن التمسك بأهداب العصبية علم قطعا لا ريب فيه، ويقينا لا رد له أنه كلام من أحاط بالمعانى ملكه، ونظم عقود البلاغة ولآلئها سلكه،
[وما قصدت بنقل طرف من كلام أمير المؤمنين إلا لغرضين.]
[الغرض الأول التنبيه على عظم قدره]
، والإعلام بأن أحدا من البلغاء وأهل الفصاحة لا يبلغ وإن عظم خطره شأو كلامه، ولا يستولى على أغواره، ويقصر عن الإتيان بمثاله وما ذاك إلا لأنه قد سبق وقصروا، وتقدم وتأخروا.
[الغرض الثانى الإعلام بأن أهل البلاغة ألهب الناس حشا، وأعطشهم أكبادا]
، إلى الوقوف على أسرارها، والإحراز لأغوالها، وأغوارها، ومع ذلك تراهم قد أعرضوا عن كلامه صفحا، وطووا عنه كشحا، مع دلوعهم من الكلام بما لا يدانيه ويقصر عن بلوغ أقصر