الحق ما قلناه: من أنه هذه الأحرف المقطعة فالقرآن محدث، وجميع كلام الله تعالى، وإن قدرنا أن حقيقة الكلام ما قالوه من كونه صفة قائمة بالذات لم نمنع قدمه إذا قامت عليه دلالة، فأما مع الإقرار أو قيام البرهان على أن معقول الكلام هو هذه الأحرف المقطعة فلا سبيل للقول بقدمه على حال، لأن ذلك غير معقول أصلا.
[الجهة الثالثة من الطعن]
ذهب أكثر الأشعرية إلى أن كلام الله تعالى متحد غير متعدد، وأنه معنى واحد قرآن، وتوراة وإنجيل وزبور، وأمر ونهى، ووعد، ووعيد، إلى غير ذلك من الأوجه المختلفة فى الكلام، وزعم فريق من الأشعرية وهم الأقلون أن كلام الله تعالى متعدد إلى وجوه خمسة: أمر، ونهى، ودعاء، ونداء، وخبر، وهو محكى عن أبى إسحاق الإسفرائينى منهم، وهو فى هذين الوجهين لا تعقل دلالته بحال، لأنه إذا كان متحدا لم يعقل فيه أمر ونهى، لأن الشىء الواحد لا يكون على هذه الأوجه، لما فيها من التناقض، وإن كان متعددا إلى هذه الأوجه الخمسة فهو خطأ أيضا، إذ لا دلالة على حصره فى هذه الأوجه، فإذن لا يتم كون القرآن دالا على الأحكام الشرعية إلا بعد إبطال هذين المذهبين، لأنهما مهما صحا بطلت دلالته فهذا من أعظم المطاعن على الاستدلال به.
والجواب أنا قد قررنا أن ماهية الكلام ومعقوله إنما هو هذه الأصوات المقطعة من غير زيادة على ذلك، وأن حقيقته غير مختلفة، شاهدا وغائبا، لأن ماهيات الأشياء وحقائقها لا تختلف باعتبار الشاهد والغائب، وإذا كان الأمر فيها كما قلناه فلا معنى لقول من قال: إن الكلام متحد، أو متعدد، بل يجب أن يكون لكل من هذه المعانى صيغة تدل عليه، ولا وجه لكونه حقيقة واحدة متحدة، ولا وجه أيضا لقصره على خمسة معان كما زعموه، وإنما بنوا هذه المقالة فى التعدد والاتحاد، على أن ماهية الكلام وحقيقته آئلة إلى أنه مغاير لهذه الأصوات المقطعة، وأنه معنى حاصل فى النفس، فلأجل هذا قالوا فيه بالتعدد والاتحاد، فإذا بطل كون الكلام معنى واحدا بطل ما بنى عليه من التعدد والاتحاد، ويدل على بطلان هذه المقالة أن كلام الله إذا كان معنى واحدا على زعمهم فكيف يعقل تعدده، وأن يكون خمس كلمات أمرا، ونهيا، ودعاء، ونداء، وخبرا، وفى هذا جمع بين النقيضين، فلا يكون مقبولا، لأنه من حيث إنه واحد فلا يعقل تعدده، ومن حيث إنه خمس كلمات يكون متعددا، فيكون متعددا غير متعدد وهو محال، فبطل ما قالوه.