للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كالطائر لفرخه فى فرط حنوه عليه وتعطفه على محبته، فجعل الذل طائرا على طريق الاستعارة، ثم أخذ الوهم فى تصوير ما للمستعار من الآلات والجوارح، ثم أضاف اسم الجناح إلى الذل، رعاية لمزيد البيان، وإفراطا فى تحصيل البلاغة. وإذا جعلته من باب التحقيق فتقريره أنه لما أراد المبالغة فى لين الجانب للأبوين من جهة الولد، استعار لفظ الجناح للتذلل والتواضع، ونزله منزلة الجناح فى التصاقه بالتراب وإسباله فى التغطية للفرخ، مبالغة فى لين العريكة، وحسن التذلل للوالدين.

ومن ألطف ما نوجهه على هذين التوجيهين قوله تعالى فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ

[النحل: ١١٢] والظاهر من هذه الاستعارة هو التخييل، لأن الله تعالى لما ابتلاهم لكفرهم باتصال هاتين البليتين، ولما استعار اللباس ههنا مبالغة فى الاشتمال عليهم أخذ الوهم فى تصوير ما للمستعار منه من التغطية والستر والاسترسال، رعاية لمزيد البيان فى ذلك، وإن جعلته من باب التحقيق للاستعارة، فتقريره هو أن ما يرى على الإنسان عند شدة الخوف والجوع من الضعف والهزال، وانتقاع اللون، وعلو الصفرة، ورثاثة الهيئة، وركة الحال، وحصول القلق والفشل، يضاهى الملابس فى اختلاف أحوالها وألوانها.

[التقسيم الثانى باعتبار اللازم لها إلى مجردة وموشحة]

إذا استعير لفظ لمعنى آخر، فليس يخلو الحال، إما أن يذكر معه لازم المستعار له، أو يذكر لازم المستعار نفسه، فإن كان الأول فهو التجريد، وإن كان الثانى فهو التوشيح،

[فأما الاستعارة المجردة]

فإنما لقبت بهذا اللقب، لأنك إذا قلت: «رأيت أسدا يجدل الأبطال بنصله، ويشك الفرسان برمحه» فقد جردت قولك: أسدا، عن لوزم الآساد وخصائصها، إذ ليس من شأنها تجديل الأبطال ولا شك الفرسان بالرماح والنصال، ومن التجريد قوله تعالى فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ

[النحل: ١١٢] ولو قال: كساها الله لباس الجوع والخوف، لكان توشيحا فبالغ فى شدة ما أصابهم بقوله «فأذاقها» لأن الذوق أبلغ فى الإحساس وأدخل فى الإيلام، من قوله كساها.

<<  <  ج: ص:  >  >>