تقديم بعض الجمل على بعض ليس خاليا عن فائدة وسرّ، وإنما قدم النداء على الأمر فقال: يا أرض ابلعى ويا سماء أقلعى، ولم يقل عكس ذلك، ابلعى يا أرض وأقلعى يا سماء، لأمرين، أما أولا فلما فى ذلك من الملاطفة والمبالغة فى تحصيل المراد، لأن كل من ناديته فإن نفسه تنزع وله توقان إلى الإجابة وتطلع إلى ما يراد من الدعاء من أمر أو نهى، فلا تزال النفس تنزع لتعلم ما هو المطلوب، فمن أجل ذلك قدم الدعاء على الأمر لما فيه من الشوق والتوقان للنفوس، وأما ثانيا فجريا على ما ألف من الإيقاظ والتنبيه، لأن كل من طالب أمرا من الأمور من غيره، فلابد من إيقاظه وتنبيهه عليه، ليكون مستعدا للامتثال له، فلأجل ذلك قدم النداء على الأمر على جهة الإيقاظ والتنبيه مما يطلب من المأمورات، ثم إنه قدم نداء الأرض على نداء السماء لما ذكرناه من العناية بأمر الأرض من تلك الأوجه الخمسة، وقد ذكرناها فأغنى عن تكريرها، ولكونها صارت أصلا لما يرد من هذه الأمور الهائلة من الإغراق والاستواء للسفينة، وإخراج من كان فيها إلى الأرض، ثم إنه عز سلطانه أردفها بقوله: وَغِيضَ الْماءُ
[هود: ٤٤] لاتصاله بقصة الأرض، وأخذه بحجزتها فلأجل ذلك أتبعه بها، لما فى ذلك من حسن الانتظام، ورونق الرصف، ألا ترى أن أصل الكلام: وقيل يا أرض ابلعى ماءك، فبلعت ماءها، ويا سماء أقلعى عن إرسال ماءك، فأقلعت عن صبه، فلا جرم حسن أن يقال: وغيض الماء النازل من السماء، والنابع من الأرض، ثم إنه جعل وتقدس، أتبعه بما هو المهم المقصود من القصة، وهو قوله تعالى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ
والمعنى به أنه أنجز الموعود من إهلاك الكفار، ونجاة نوح ومن معه فى السفينة، وإخراجهم إلى الأرض، لما أراد منهم من العبادة وعمارتها، والتناسل فيها، ثم إنه تعالى أتبعه بحديث السفينة وذكرها، وهو قوله تعالى إعلاما لهم بما يريد من الأمور التابعة للمصلحة، ثم إنه تعالى ختم القصة بالدعاء عليهم بالإبعاد، فلما كانت القصة من أولها دالة على العذاب العظيم من الإهلاك بالغرق، ختمها بما يجانسها من سوء العاقبة بالإبعاد والطرد، كما هو موضوع فى أساليب التنزيل، من حسن الفواتح والخواتم.