نجعله خاتمة للكلام فى الوجه الذى لأجله حصل الإعجاز، اعلم أن القرآن إنما صار معجزا لكونه دالا على تلك المحاسن والمزايا التى لم يختص بها غيره من سائر الكلام، ولا يجوز أن تكون راجعة إلى الدلالات الوضعية، سواء كانت باعتبار دلالتها على معانيها الوضعية، أو مجردة عنها، وقد ذهب إلى ذلك أقوام.
وهو فاسد لأمرين، أما أولا: فلأن الكلمة الواحدة قد تكون فصيحة إذا وقعت فى محل، وغير فصيحة إذا وقعت فى محل آخر، فلو كان الأمر فى الفصاحة والبلاغة راجعا إلى مجرد الألفاظ الوضعية، لما اختلف ذلك بحسب اختلاف المواضع، وأما ثانيا فلأن الاستعارة، والتشبيه، والتمثيل، والكناية، من أعظم قواعد الفصاحة وأبلغها. وإنما كانت كذلك باعتبار دلالتها على المعانى لا باعتبار ألفاظها. فصارت الدلالة على وجهين:
الوجه الأول دلالة وضعية، وهذه لا تعلق لها بالبلاغة والفصاحة كما مهدنا طريقه، وثانيهما الدلالة المعنوية، ودلالتها إما بالتضمن، أو بالالتزام، وهما عقليان من جهة أن حاصلهما، هو انتقال الذهن من مفهوم اللفظ إلى ما يلازمه، ثم تلك الملازمة إما أن تكون دلالة على جزء المفهوم، أو تكون دلالة على معنى يصاحب المفهوم، فالأول هو الدلالة التضمنية، والثانى هو الدلالة الخارجية وهما جميعا من اللوازم، ثم إن تلك اللوازم تارة تكون قريبة، وتارة تكون بعيدة، فمن أجل ذلك صح تأدية المعانى بطرق كثيرة، بعضها أكمل من بعض، وتارة تزيد، ومرة تنقص، فلأجل هذا اتسع نطاق البلاغة وعظم شأنه، وارتفع قدره وعلا أمره، فربما علا قدر الكلام فى بلاغته حتى صار معجزا لا رتبة فوقه، وربما نزل الكلام حتى صار ليس بينه وبين نعيق البهائم إلا مزية التأليف والتركيب، وربما كان متوسطا بين الرتبتين، وقد يوصف اللفظ بالجودة، لكونه متمكنا فى أسلات الألسنة غير ناب عن مدارجها، ولا قلق على سطح اللسان، جيدا سبكه صحيحا طابعه، وأنه فى حق معناه من غير زيادة عليه ولا نقصان عنه، وقد يذمونه بنقائض هذه الصفات بأنه معقد جرز، وأنه لتعقيده استهلك المعنى، يمشى اللسان إذا نطق به كأنه مقيد، وحشى، نافر، نازل القدر، طويل الذيول من غير فائدة، ولا معنى تحته، وقد يصفون