[الضرب الثانى فى أمثلة الإلغاز وهو الأحجية]
وهو ميلك بالشىء عن وجهه، واشتقاقه من قولهم طريق لغز إذا كان يلتوى ويشكل على سالكه، ويقال له المعمى أيضا ويفارق ما ذكرناه من المغالطة المعنوية فإنها مبنية على اشتراك اللفظ بين معنيين كما أسلفنا تقريره، بخلاف اللغز، فإنه إنما يوجد من جهة الحدس والحزر لا من جهة دلالة اللفظ بحقيقته، ولا بمجازه، ومثاله قول بعض الشعراء فى الضرس:
وصاحب لا أملّ الدهر صحبته ... يسعى لنفعى ويسعى سعى مجتهد
ما إن رأيت له شخصا فمذ وقعت ... عينى عليه افترقنا فرقة الأبد
فما هذا حاله من الكلام ليس فيه دلالة على الضرس لا من جهة حقيقة اللفظ ولا من جهة مجازه، وإنما هو شىء يعرف بدقة الذكاء وجودة الفطنة، ومن أجل هذا تختلف القرائح فى السرعة والإبطاء فى فهمه، ومن الأمثلة ما قال بعض الشعراء فى أيام الأسبوع ولياليه:
سبع رواحل ما ينخن من الونى ... شيم تساق بسبعة زهر
متواصلات لا الدّءوب يملّها ... باق تعاقبها على الدهر
فما ذكره لا يفهم من طريق الحقيقة ولا من جهة المجاز ولا من جهة المفهوم، وإنما يفهم بطريق الحدس والحزر، ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى يصف السفن فى قصيدته التى يمدح بها سيف الدولة عند ذكره لصورة الفرات التى مطلعها (الرأى قبل شجاعة الشجعان) قال فيها:
وحشاه عادية بغير قوائم ... عقم البطون حوالك الألوان
تأتى بما سبت الخيول كأنها ... تحت الحسان مرابض الغزلان «١»
وهذا من جيد ما يذكر فى الإلغاز وبديعه لما فيه من الرشاقة والحسن، ومن ذلك ما قاله بعضهم يصف حجر المحكّ الذى تستعمله الصاغة:
ومدّرع من صبغة الليل برده ... يفوق طورا بالنّضار ويطلس
إذا سألوه عن عويصين أشكلا ... أجاب بما أعيى الورى وهو أخرس