فلا يكفى فيه وجود الكلم العربية المفردة، بل ولو اختص بالكلم العربية المفردة فلابد من أن يكون واردا فيما كان مسندا، لأنه لابد من اختصاصه بالإفادة، وليس يكون مفيدا إلا بالإسناد الذى تحصل من أجله فائدة الكلام. الشرط الثالث: أن يكون واردا فى المجاز فلا يعقل البديع إلا إذا كان الكلام واقعا فى رتبة المجاز، فأما ما كان من الكلام موضوعا على أصل حقيقته فلا مدخل له فيه، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه أن السّعة فى الكلام والافتتان فيه إنما يكون حاصلا بالدخول فى الأنواع المجازية، فأما الحقائق فهى قليلة بالإضافة إلى المضطربات المجازية، وهو الذى أوجب انشعاب البديع إلى تلك الأصناف التى أسلفناها، فإنه لم يقع اختلافها إلا لما يتعلق بها من التصرف فى المجاز والدخول فيه كل مدخل، ولهذا فإن العرب ممتازون فى كلامهم على العجم بهذه الخصلة، فإن الشاعر من العجم ربما ذكر كتابا طويلا من أوله إلى آخره شعرا على صفة واحدة من غير اختلاف فيه، كما تفعله العرب فى قصائدها من اختلاف بحورها ورويها، ومقاصدها ومغازيها المتباينة، كما يحكى عن الفردوسى من شعراء العجم أنه نظم كتابا وجعله ستين ألف بيت يشتمل على تاريخ الفرس، ومثل هذا لا يقصد فى لغة العرب مع أن اتساعها أكثر من اتساع لغة العجم، الشرط الرابع: أن يكون المجاز حاصلا فى الاستعارة من بين أودية المجاز والكناية، والتمثيل المضمر الأداة، لأن بهذه الأمور يحصل اليقين فى الكلام، ويكثر الاتساع لأجلها، فهذه الشرائط لا بد من اعتبارها فى علم البديع وإحرازه.
[التقرير الثانى فى بيان المواضع التى لا يصح دخوله فيها]
وهو عكس هذه الأمور الأربعة، لأنها إذا كانت شرطا فى صحته كان ما خلافها مبطلا له، فلا يرد فى الكلم المفردة، ولا يكون واردا فى المركبات التى لا إسناد فيها لبطلان فائدته، ولا يدخل فى حقائق الكلام، وهو ما أريد به ما وضع له فى الأصل، ولا يرد فى التشبيه المظهر الأداة لأنه ليس معدودا على الصحيح فى أودية المجاز، فأما التشبيه المضمر الأداة فهو نوع من أنواع الاستعارة، فلا يمتنع وروده فيه، ويرد فى الكناية أيضا، فهذه جملة ما يجب اعتباره فى كون البديع من الكلام بديعا، وما لا يعتبر فيه، وبتمامه يتم القول على الباب الرابع من أبواب الفن الثانى الذى رسمناه للمقاصد، ونشرح الآن الفن الثالث وهو التكملات اللاحقة.