ينزل بك والسلام. فهذا ما أردنا ذكره من كلام أمير المؤمنين فى الاستدراجات اللطيفة، وكم له فى هذا النوع من الكلمات لأنه كان قد بلى بحرب أهل القبلة وخروجهم عليه، فكان حريصا على إبانة الحجة، وإيضاح المحجة، بالأقوال اللطيفة، والخطابات الرقيقة، إبلاغا للحجة، وقطعا للمعذرة، ولله در أمير المؤمنين، فلقد كان قوالا للحق، فعالا له، موضح السنن والمعالم، والناصح لله وللدين لا تأخذه فيه لومة لائم.
[المثال الرابع ما ورد عن البلغاء فى الاستدراج،]
يحكى أنه وقعت بين الحسين بن على صلوات الله عليه، وبين معاوية بن أبى سفيان مفاوضة فى أمر ولده يزيد، وذلك أن معاوية قال للحسين بن على: أما أمك فإنها خير من أمه، وفاطمة بنت رسول الله خير من أمرأة من كلب، وأما حبى يزيد فإنى لو أعطيت به مثلك ملء الغوطة ما رضيت، وأما أبوك وأبوه، فإنهما تحاكما إلى الله فحكم لأبيه على أبيك، فلينظر الناظر ما اشتمل عليه كلام معاوية من المراوغة عن الحق وتلبيس الأمر فى ذلك عن السامع بلطيف الاستدراج وحسن الإجمال مع ما فيه من البلاغة والفصاحة، فانظر إلى عظم دهائه، وإغراقه فى الحذق والكياسة، حيث علم وتفطن ما كان لأمير المؤمنين من السبق فى الإسلام، وحسن الإبلاء فى الجهاد لأعداء الله، وما خصه الله به من العلم الباهر والقدم الراسخ فى الزهد والعبادة فلم يتعرض للمفاخرة فى ذلك، ولا دعا إلى المنافرة، ولو قال إن الله قد أعطانى الدنيا، ونزعها منكم، لأن مثل هذا لا فضل فيه، لأن الدنيا لها البر والفاجر، ولكن صفح عن ذلك كله، وأعرض عنه، وأتى بكلام مبهم لا يفهم منه المقصود، وهو قوله: إن أباك وأباه تحاكما إلى الله فحكم لأبيه على أبيك، فإنما أتى بهذا الكلام ليسكت خصمه، ويستدرجه إلى الإصمات، وهذا من غدره ودهائه قليل، ومن لطيف ما جاء فى الاستدراج من المنظوم ما قاله أبو الطيب المتنبى: وذلك أن سيف الدولة كان مخيما بأرض الديار البكرية على مدينة ميّا فارقين، ليأخذها فعصفت الريح خيمته فأسقطتها فتطير الناس لذلك، وقالوا إنه لا يأخذها فامتدحه أبو الطيب بقصيدة لامية يعتذر فيها عن