إنما يظهر من جهة ما ذكرناه من المعنى المفهوم، وأن الإطناب فى الضرب الثانى إنما يظهر من جهة اللفظ بإيراد التشبيه للإيضاح والتقرير كما أشرنا إليه.
[الضرب الثالث أن يذكر الموصوف]
فيؤتى فى ذلك بمعان متداخلة خلا أن كل واحد من تلك المعانى مختص بخصيصة لا تكون للآخر، ومثاله قول أبى تمام يصف رجلا أنعم عليه:
من منّة مشهورة وصنيعة ... بكر وإحسان أغر محجّل
فقوله منة مشهورة، وصنيعة بكر، وإحسان أغر محجل، معان متداخلة، لأن المنة والإحسان والصنيعة كلها أمور متقاربة بعضها من بعض، وليس ذلك من قبيل التكرير، لأنها إنما تكون تكريرا لو اقتصر على ذكرها مطلقة من غير صفة كأن يقول منة وصنيعة وإحسان ولكنه وصف كل واحدة منها بصفة تخالف صفة الآخر، فلا جرم أخرجها ذلك عن حكم التكرير، فقال «منة مشهورة» لكونها عظيمة الظهور لا يمكن كتمانها، وقوله «صنيعة بكر» فوصفها بالبكارة، أى أن أحدا من الخلق لا يأتى بمثلها من قبل ومن بعد، وقوله «وإحسان أغر محجل» فوصفه بالغرة ليدل بذلك على تعداد محاسنه وكثرة فوائده، فلما وصف هذه المعانى المتداخلة الدالة على شىء واحد بأوصاف متباينة صار ذلك إطنابا ولم يكن تكريرا، وكقول أبى تمام أيضا:
فإن غرضه فيما قاله ذكر الممدوح بالكرم وكثرة العطاء خلا أنه وصفه بأوصاف متعددة، فجعل ضيوفه تضيف، وراجيه يراجى، وسائله يسأل، وليس هذا من باب التكرير، لأن كل واحد منها دال على خلاف ما دل عليه الآخر لأن ضيفه يستصحب ضيفا طمعا فى كرم مضيفه، وسائله يسأل، أى أنه يعطى السائلين عطاء جزلا يصيرون به معطين غيرهم، وراجيه يرجى، أراد أنه إذا تعلق به رجاء راج فقد ظفر بنجاح حاجته وفاز بإنجاز مطلبه، وهذا أعظم وصف وأبلغه.
[الضرب الرابع من الإطناب أن المتكلم إذا أراد الإطناب فإنه يستوفى معانى الغرض المقصود من رسالة، أو خطبة، أو تأليف كتاب، أو قصيدة، أو قرطاس، أو غير ذلك من فنون الكلام،]
وهذا هو أصعب هذه الضروب الأربعة، وأدقها مسلكا، وأضيقها جريا،