للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفصل الرابع فى [الامتحان]

اعلم أن من المعانى ما يكون متوسطا فيما أتى به من أجله، فيكون اقتصادا، ومنها ما يكون قاصرا عن الغرض فيقال له تفريط، ومنها ما يكون زائدا عن الحد فيكون إفراطا، فهذا الفصل يسمى الامتحان لما كان فيه الإفادة لمعرفة هذه الأمور الثلاثة، فإذا عرفت هذا فاعلم أن هذه الأمور الثلاثة، أعنى الاقتصاد، والتفريط، والإفراط، لها مدخل فى كل شىء من العلوم والصناعات، والأخلاق والطباع، ولابد من بيان معانيها فى الأوضاع اللغوية، ثم نظهر نقلها إلى المعانى.

فأما الاقتصاد فاشتقاقه من القصد وهو العدل الذى لا يميل إلى أحد الطرفين، قال الله تعالى: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ

[لقمان: ٣٢] فوسطه بين قوله: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ

[فاطر: ٣٢] فظلم النفس، والسبق بالخيرات هما طرفان، والاقتصاد أوسطهما، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)

[الفرقان: ٦٧] فالإسراف، والإقتار طرفان، والقوام، هو الوسط والاقتصاد، لأن الوسط لابد له من طرفين، ولهذا قال عليه السلام: خير الأمور أوساطها، ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن لباس الشهرتين، فلا بد هناك من وسط مأمور به، وهو لباس أهل الصلاح، فلا يكون لباس أهل الفخر والخيلاء ولا لباس أهل الإدقاع والفقر والمسكنة، ولهذا قال بعضهم:

عليك بالقصد فى كل الأمور تفز ... إن التخلق يأتى دونه الخلق

والوسط مستحسن عقلا، وشرعا، وعرفا، وأما التفريط فهو التقصير والتضييع، ولهذا قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ

[الأنعام: ٣٨] أى ما أهملنا من إيداعه المصالح الدينية، ولا ضيعناها منه، وأما الإفراط، فهو الإسراف فى الشىء والتجاوز للحد فيه يقال أفرط فى الشىء، إذا تجاوز الحد، فصار التفريط والإفراط هما الطرفان الضدان، والاقتصاد هو الوسط فى الاعتدال، فهذه هى المعانى التى تفيدها هذه الألفاظ من جهة اللغة، فإذا عرفتها فنقول قد نقلت هذه المعانى الثلاثة إلى أمور مصطلح عليها فى علوم البيان، نوضحها ونجعلها على مراتب ثلاث:

<<  <  ج: ص:  >  >>