يبق إلا أنه يتجاذبهما حقيقة ومجاز، وهذا هو مطلوبنا، ولا قسم ههنا رابع فنورده ونتكلم عليه. هذا ملخص كلام ابن الأثير فيما زعمه، والحق الذى لا غبار على وجهه، أن الكناية مخالفة للاستعارة، وإن كانتا معدودتين من أودية المجاز، والتفرقة بينهما تقع من أوجه ثلاثة، أولها من جهة العموم، والخصوص، فإن الاستعارة عامة، والكناية خاصة، ولهذا فإن كل استعارة فهى كناية، وليس كل كناية استعارة. وثانيها أن الكناية يتجاذبها أصلان، حقيقة ومجاز، وتكون دالة عليهما معا عند الإطلاق. بخلاف الاستعارة، فإن لفظ الأسد يستعمل فى السبع فيكون دالا عليه، ثم يستعمل فى الشجاع فيكون دالا عليه، فأما الكناية فهى دالة على الحقيقة والمجاز جميعا عند الإطلاق، وثالثها هو أن لفظ الاستعارة صريح، ودلالتها على ما تدل عليه من الحقيقة والمجاز على جهة التصريح، بخلاف الكناية، فإن دلالتها على معناها المجازى ليس من جهة التصريح، بل من جهة الكناية، فقد افترقا من هذه الأوجه كما ترى، فوجب القضاء بكون حقيقة أحدهما مخالفة لحقيقة الأخرى، لا يقال فعلى أى وجه يكون التعويل فى اشتقاق اسم الكناية، هل يكون من الستر، أو يكون اشتقاقها من الكنية؟ لأنا نقول: الأمران محتملان فيها.
وبيانه، أما اشتقاقها من الستر فهو ظاهر، لأن المجاز مستور بالحقيقة حتى يظهر بالقرينة، فالحقيقة ظاهرة والمجاز خفى، وأما اشتقاقها من الكنية فهو ممكن أيضا، لأن الرجل إذا كان اسمه محمدا، فهو كالحقيقة فى حقه، لأنه هو الموضوع بإزائه أولا، وأما قولنا: أبو عبد الله، فإنه أمر طارىء بعد جرى محمد عليه، لأنه كأنهم لا يطلقونه عليه إلا بعد أن صار له ابن يقال له عبد الله حقيقة، أو تفاؤلا، فلهذا قلنا بأنه كنية، لما كان موضحا للاسم وكاشفا عنه فهما كما ترى صالحان للاشتقاق.
الفصل الثانى فى بيان ماهية [التعريض] ، وذكر التفرقة بينه وبين الكناية
، أما حقيقة التعريف فله مجريان.
[المجرى الأول، لغوى]
، والتعريض خلاف التصريح، يقال: عرضت لفلان أو بفلان إذا قلت قولا وأنت تعنيه، ومنه المعاريض فى الكلام، وفى أمثالهم «إن فى المعاريض لمندوحة عن الكذب» أرادوا أن المعاريض فيها سعة عن قصد الكذب وتعمده، واشتقاقه من قولهم عرض له كذا، إذا عنّ، لأن الواحد منا قد يعرض له أمر خلاف التصريح فيؤثره ويقصده.