الفصاحة. ومن الإيجاز بالتقدير ما قاله على بن جبلة:
وما لامرىء حاولته منك مهرب ... ولو حملته فى السماء المطالع
بلى هارب لا يهتدى لمكانه ... ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع
ومن ذلك ما قاله النابغة الذبيانى «١» :
فإنك كالليل الذى هو مدركى ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ومن ذلك ما قاله الأعشى فى اعتذاره إلى أوس بن لأم لما هجاه:
وإنى على ما كان منى لنادم ... وإنى إلى أوس بن لأم لتائب
وإنى إلى أوس ليقبل عذرتى ... ويصفح عنى ما جنيت لراغب
فهب لى حياتى والحياة لقائم ... بسرك منها خير ما أنت واهب
سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادق ... كتاب هجاء سار إذ أنا كاذب
ولقد أتى الأعشى فى شعره هذا بالعجب العجاب وحير فيه الأفئدة وسحر الألباب، لما ضمنه فيه من رقة الألفاظ، التى تولّع بها كلّ ذكى حفّاظ.
الضرب الثانى فى بيان [الإيجاز بالقصر] ،
وهو الذى تزيد فيه المعانى على الألفاظ وتفوق، وكتاب الله تعالى مملوء منه، ولنورد فيه أمثلة خمسة كما فعلنا بالضرب الأول بمعونة الله تعالى.
«المثال الأول» قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)
[الأعراف: ١٩٩] فقد جمع فى هذه الآية جميع مكارم الأخلاق؛ لأن فى العفو الصفح عمن أساء، والرفق فى كل الأمور، والمسامحة والإغضاء، وفى قوله وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
صلة الأرحام، ومنع اللسان عن الكذب والغيبة، وغض الطرف عن كل مّحرم، وغير ذلك، وفى الإعراض عن الجهال، والصبر والحلم، وكظم الغيظ. فهذه الألفاظ وإن قلّت فقد أنافت معانيها على الغاية، ولم تقف على حد ونهاية، وهذا النوع هو أعلى طبقات الفصاحة مكانا، وأعوزها إمكانا. ومن هذا قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
[البقرة: ١٧٩] فانظر إلى هذه اللفظة الجميلة كم يندرج تحتها من المعانى التى لا يمكن حصرها، ولا ينتهى أحد إلى