للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الضرب الأول منها ما ورد فى القرآن]

وهذا كقوله تعالى فى قصة إبراهيم: قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ

[الأنبياء: ٦٢، ٦٣] فإنما أورد إبراهيم صلوات الله عليه هذا الكلام على جهة التهكم والاستهزاء والسخرية بعقولهم، وذلك يكون من وجهين، أحدهما أنه لم يرد نسبة الفعل إلى كبير الأصنام، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على رمز خفى، ومسلك تعريض، يبلغ به إلزام الحجة لهم، والتسفيه لحلومهم، كأنه يقال يا ضعفاء العقول ويا جهال البرية، كيف تعبدون ما لا يجيب إن سئل، ولا ينطق إن كلم وتجعلونه شريكا لمن له الخلق والأمر، فوضع قوله: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)

موضع هذا، ونظير هذا لو أحضر عدلّى وجبرىّ للمناظرة، فلما تقابلا للإفحام قام العدلى فلطم الجبرى لطمة شديدة، فقيل للعدلى من فعل هذا، فله أن يقول فعله الله فوضع قوله: فعله الله، موضع إلزام الحجة وقطع الخصومة للجبرى، فهكذا قول إبراهيم عليه السلام: فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ

. وثانيهما أن يقال: إن كبير الأصنام غضب لما عبد معه غيره من هذه الأصنام الصغار، فكسرها على جهة التخيل والتمثيل، وغرض إبراهيم بذلك أن يعرض بهم فى كونهم قد أشركوا فى العبادة من هو دون الله، وأن من دونه مخلوق حقير من مخلوقاته، فوضع هذا الكلام لفاحش ما أتوا به وعظيم ما تلبسوا به من عبادة غير الله، ومن ذلك قوله تعالى: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٣٧)

[هود: ٢٧] فهذه الآية كلها موضعها فى قصدهم واعتقادهم موضع التعريض بأنهم أحق بالنبوة، وأن نوحا لم يكن متميزا عليهم بحالة يجب لأجلها أن يكون نبيا من بينهم فقالوا:

لو أراد الله أن يجعل النبوة فى أحد من البشر، لكانوا أحق بها دونه. والتعريض فى القرآن وارد كثيرا بأحوال الكفرة فى التهكم والنقص وإسقاط المنزلة وحط القدر، ومواضعها دقيقة تستخرج بالفكر الصافى، والرسوخ فى قدم البلاغة.

<<  <  ج: ص:  >  >>