[الضرب الثانى ما تكون الأداة فيه ظاهرة]
اعلم أن ما هذا حاله فمضطرب البلاغة فيه واسع، وميدانها لديه فسيح، ومما أغرق فى الإعجاب والبداعة وأدهش الألباب من أهل هذه الصناعة قوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ
[الحج: ٣١] وقوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها
[الأنعام: ١٢٢] وقوله تعالى ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ
[آل عمران: ١١٧] فهذا وأمثاله من التشبيهات المركبة الفائقة التى أغرقت فى الفصاحة، ورسخت أصولها فى البلاغة. ومن هذا قول أمير المؤمنين فى وصف الفتن «أقبلت الفتن كالليل المظلم، والبحر الملتطم، لا تقوم لها قائمة ولا ترد لها راية» فشبهها بالليل لما يكون فيها من ظلم الجهل، وشبهها بالبحر لما فيها من شدة اضطراب الآراء واختلاف الأهواء. وقوله فى تحريض أصحابه على القتال «ولقد شفى وحاوح صدرى أن رأيتكم بآخرة تحوزونهم كما حازوكم وتزايلونهم عن مواقعهم كما أزالوكم حشّا بالنبال، وشجرا بالرماح، تركب أولاهم أخراهم، كالإبل المطرودة، ترمى عن حياضها، وتذاد عن مواردها» وكم له من التشبيهات التى فاق فيها على البلغاء، ولم يزاحمه أحد من مصاقع الخطباء. ومن جيد التشبيه ما قاله البحترى:
خلق منهم تردد فيهم ... وليته عصابة عن عصابة
كالحسام الجراز يبقى على الده ... ر ويفنى فى كل حين قرابه
ومن ذلك ما قاله بعض الشعراء:
تراهم ينظرون إلى المعالى ... كما نظرت إلى الشيب الملاح
يحدون العيون إلى شزرا ... كأنى فى عيونهم السماح
وكقول أبى تمام يهجو إنسانا:
كم نعمة لله كانت عنده ... فكأنها فى غربة وإسار
كسيت سبائب لؤمه فتضاءلت ... كتضاؤل الحسناء فى الأطمار
فهذا ما أردنا ذكره فى تقسيم التشبيه وبيان ضروبه وأنواعه.