فاكتفى بذكر المسبب الذى هو القراءة عن السبب الذى هو الإرادة وهكذا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
[المائدة: ٦] والمعنى إذا أردتم القيام، فوضع مسبّبها مكانها ودل به عليها، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قام أحدكم إلى الصّلاة فليتوضّأ» يريد إذا أراد أحدكم؛ لأن الفعل مسبّب عن الإرادة، ومن هذا قوله تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ
[البقرة: ٦٠] والمعنى «فضرب فانفجرت» وأمثال ذلك كثيرة.
الضرب الثالث: [الحذف الوارد على شريطة التفسير]
، وتقرير هذا أن تحذف جملة من صدر الكلام، ثم يؤتى فى آخره بما له تعلق به، فيكون دليلا عليه، ثم إنه يرد على أوجه ثلاثة، أولها: أن يكون واردا على وجه الاستفهام، وهذا كقوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ
[الزمر: ٢٢] لأن التقدير فى الآية أفمن شرح الله صدره كمن جعل قلبه قاسيا، وقد دل عليها بقوله: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ
وثانيها: أن يكون واردا على جهة النفى والإثبات ومثله قوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا
[الحديد: ١٠] لأن تقدير الآية لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، وقد دل على هذا المحذوف بقوله: أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا
وثالثها: أن يكون واردا على غير هذين الوجهين، وهذا كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠)
[المؤمنون: ٦٠] فالمعنى فى الآية والذين يعطون ما أعطوا من الصدقات وسائر القرب الخالصة لوجه الله تعالى: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
أى خائفة من أن ترد عليهم صدقاتهم فحذف قوله ويخافون أن ترد عليهم هذه النفقات، ودل عليه بقوله: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
فظاهر الآية أنهم وجلون من الصدقة وليس وجلهم لأجل الصدقة، وإنما وجلهم لأجل خوف الرد المتصل بالصدقة، وعلى هذا المعنى يحمل قول أبى نواس:
سنّة العشّاق واحدة ... فإذا أحببت فاستكن
فحذف الاستكانة من الأول وذكرها فى المصراع الثانى، لأن التقدير، سنة العاشقين واحدة وهى أن يستكينوا ويتضرعوا، فإذا أحببت فاستكن، ونحو هذا ما قال أبو تمام:
يتجنّب الآثام ثمّ يخافها ... فكأنما حسناته آثام