(المرتبة الثالثة) ما كان من معقول اللفظ، ويندرج تحت هذا جميع الاستنباطات الفقهية التى أخذت من غير ظاهر اللفظ، فإذا حرم الخمر بنص فإنا نحرم غيرها بجامع الشدة والسكر، بمعقول اللفظ ودلالته عند ورود التعبد بالقياس، فهذه دلائل الألفاظ، فأما التعريض فليس يفهم من جهة اللفظ، ولكنه مدلول عليه بالقرينة، خلافا لما زعمه ابن الأثير، من كونه مفهوما من طريق المفهوم كما قررناه، ولنذكر له مثالين.
المثال الأول: للتعريض فى خطبة النكاح، كما أشار إليه تعالى فى قوله: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ
[البقرة: ٢٣٥] وهذا كقول الزوج: إنك لمرغوب فيك، لأحوالك الجميلة، وإنى لمحتاج إلى ما آنس به، فهذا وأمثاله مما لا يدل على النكاح بحقيقته، ولا بمجازه، ولا من جهة ظاهره، ولا من جهة مفهومه، وإنما هو حاصل من جهة القرينة وأحوال الشمائل والشيم.
المثال الثانى: قولك لمن تتوقع صلته ومعروفه بغير طلب: والله إنى لفقير، وإنى لمحتاج وما فى يدى شىء، وإنى عريان، والبرد قد آذانى. فهذا وأمثاله تعريض بالطلب، وليس دلالته على الطلب لا من جهة حقيقته، ولا من جهة مجازه، كما أشرنا إليه، ومن ثم قيل له تعريض، لما كان المعنى منه مفهوما من عرضه، أى جانبه، وعرض كل شىء جانبه، وهو كثير الدور فى الكلام، وله مدخل فى البلاغة. وموقع عظيم،
فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر أمثلة التعريض، ثم نردفه بذكر التفرقة بينه وبين الكناية فهذان مقصدان نوضحهما بعون الله تعالى.
[المقصد الأول فى بيان أمثلته]
اعلم أن كثيرا من علماء البيان لا يميزون بين التعريض والكناية فى الماهية، وقد ميزنا كل واحد منهما بحده، وكثيرا ما يخلطون أمثلة هذا بهذا وهما مفترقان كما أشرنا إليه، ونقتصر من الأمثلة على ضروب خمسة.