الأيام لا يعرف شيئا من تلك اللغة، لكان ذلك دليلا على فساد عقله وتغيره، والمعلوم من حال العرب أن عقولهم ما زالت بعد التحدى بالقرآن وأن حالهم فى الفصاحة والبلاغة بعد نزوله كما كان من قبل، فبطل ما عول عليه أهل الصرفة، وكلامهم يحتمل أكثر مما ذكرناه من الفساد، وله موضع أخص به، فلا جرم اكتفينا ههنا بما أوردناه.
[المذهب الثانى قول من زعم أن الوجه فى إعجازه إنما هو الأسلوب،]
وتقريره أن أسلوبه مخالف لسائر الأساليب الواقعة فى الكلام، كأسلوب الشعر، وأسلوب الخطب والرسائل، فلما اختص بأسلوب مخالف لهذه الأساليب، كان الوجه فى إعجازه، وهذا فاسد لأوجه، أولها أنا نقول: ما تريدون بالأسلوب الذى يكون وجها فى الإعجاز، فإن عنيتم به أسلوبا أى أسلوب كان، فهو باطل، فإنه لو كان مطلق الأسلوب معجزا لكان أسلوب الشعر معجزا، وهكذا أسلوب الخطب والرسائل، يلزم كونه معجزا، وإن عنيتم أسلوبا خاصا، وهو ما اختص به من البلاغة والفصاحة، فليس إعجازه من جهة الأسلوب، وإنما وجه إعجازه الفصاحة والبلاغة كما سنوضحه من بعد هذا عند ذكر المختار، وإن عنيتم بالأسلوب أمرا آخر غير ما ذكرناه فمن حقكم إبرازه حتى ننظر فيه فنظهر صحته أو فساده، وثانيها أن الأسلوب لا يمنع من الإتيان بأسلوب مثله، فلو كان الأمر كما زعمتموه، جازت معارضة القرآن بمثله، لأن الإتيان بأسلوب يماثله سهل ويسير على كل أحد، وثالثها أنه لو كان الإعجاز إنما كان من جهة الأسلوب لكان ما يحكى عن «مسيلمة» الكذاب معجزا وهو قوله: إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، وقوله:
والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، لأن ما هذا حاله مختص بأسلوب لا محالة، فكان يكون معجزا، وأنه محال، ومن وجه رابع، وهو أنه لو كان وجه إعجازه الأسلوب، لما وقع التفاوت بين قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
[البقرة: ١٧٩] وبين قول الفصحاء من العرب «القتل أنفى للقتل» لأنهما مستويان فى الأسلوب، فلما وقع التفاوت بينهما دل على بطلان هذه المقالة والله أعلم.