اعلم أن التجريد فى أصل اللغة هو إزالة الشىء عن غيره فى الاتصال، فيقال: جرّدت السيف عن غمده، وجردت الرجل عن ثيابه، إذا أزلتهما عنهما، ومنه قوله عليه السلام «لا مد ولا تجريد» يعنى فى حد القذف وحد الشرب، وأراد أن المحدود لا يمد على الأرض ولا يجرد عن ثيابه، فأما فى مصطلح علماء البيان فهو مقول على إخلاص الخطاب إلى غيرك وأنت تريد به نفسك، وقد يطلق على إخلاص الخطاب على نفسك خاصة دون غيرها، وهو من محاسن علوم البيان ولطائفه، وقد استعمل على ألسنة الفصحاء كثيرا فصار مقولا على هذين الوجهين، فلنقصر الكلام فيه عليهما، ونذكر له تقريرين.
[التقرير الأول فى التجريد المحض]
وهو أن تأتى بكلام يكون ظاهره خطابا لغيرك وأنت تريده خطابا لنفسك فتكون قد جردت الخطاب عن نفسك وأخلصته لغيرك، فلهذا يكون تجريدا محققا، وهذا كقول بعض الشعراء فى مطلع قصيدة له:
إلام يراك المجد فى زىّ شاعر ... وقد نحلت شوقا فروع المنابر
كتمت بعيب الشعر حلما وحكمة ... ببعضهما ينقاد صعب المفاخر
أما وأبيك الخير إنّك فارس ل ... مقال ومحيى الدارسات الغوائر
وإنّك أعييت المسامع والنّهى ... بقولك عمّا فى بطون الدّفاتر
فهذا وما شاكله من أحسن ما يوجد فى التجريد، ألا تراه فى جميع هذه الخطابات ظاهرها يشعر بأنه يخاطب غيره والغرض خطاب نفسه، وهذا هو السر واللباب فى التجريد كما أسلفنا تقريره.
[التقرير الثانى فى بيان التجريد غير المحض]
وهو أن تجعل الخطاب لنفسك على جهة الخصوص دون غيرها، والتفرقة بين هذا، والأول ظاهرة، فإنك فى الأول جردت الخطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك، فإطلاق اسم التجريد عليه ظاهر، بخلاف الثانى، فإنه خطاب لنفسك لا غير، وإنما قيل له تجريد لأن نفس الإنسان لما كانت منفصلة عن هذه الأبعاض والأوصال، صارت كأنها منفصلة عنها فلهذا سمى تجريدا، ومثاله ما قاله عمرو بن الإطنابة «١» :