اعلم أن المعنى المقصود إذا ورد فى الكلام مبهما فإنه يفيده بلاغة، ويكسبه إعجابا وفخامة، وذلك لأنه إذا قرع السمع على جهة الإبهام، فإن السامع له يذهب فى إبهامه كل مذهب، ومصداق هذه المقالة قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ
ثم فسره بقوله أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦)
[الحجر: ٦٦] وهكذا فى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما
فأبهمه أولا ثم فسره بقوله: بَعُوضَةً فَما فَوْقَها
[البقرة:
٢٦] ففى إبهامه فى أول وهلة، ثم تفسيره بغير ذلك تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه، فإنه لو قال: وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع، وإن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا بعوضة، لم يكن فيه من الفخامة وارتفاع مكانه فى الفصاحة، مثل ما لو أبهمه قبل ذلك، ويؤيد ما ذكرناه هو أن الإبهام أولا يوقع السامع فى حيرة وتفكّر واستعظام، لما قرع سمعه فلا تزال نفسه تنزع إليه وتشتاق إلى معرفته والاطلاع على كنه حقيقته، ألا ترى أنك إذا قلت: هل أدلك على أكرم الناس أبا، وأفضلهم فعلا وحسبا، وأمضاهم عزيمة، وأنفذهم رأيا، ثم تقول: فلان- فإن هذا وأمثاله يكون أدخل فى مدحته مما لو قلت: فلان الأكرم الأفضل الأنبل، وما ذاك إلا لأجل إبهامه أولا، وتفسيره ثانيا، وكل ذلك يؤكد فى نفسك عظم البلاغة فى الكلام إذ أبهم أولا، ثم إنه فسر ثانيا، ثم فى إفادته لما يفيده من ذلك ضربان:
الضرب الأول منهما ما يرد مبهما من غير تفسير، ووروده فى القرآن كثير، وهذا كقوله تعالى فى قصة موسى وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ
[الشعراء: ١٩] فلم يذكر الفعلة بعينها مع كونها معلومة لما فى ذلك من المبالغة فى أمرها وتعظيم شأنها، كأنه قال: تلك الفعلة التى عظم أمرها، وارتفع شأنها، وكقوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ
[الإسراء: ٩] يريد بذلك الطريقة أو الحالة أو الخصلة إلى غير ذلك من المحتملات المتعددة، وأى شىء من هذه الأمور قدّرته فإنك لا تجد له من البلاغة وإن بالغت فى الإفصاح به، الذى تجده من مذاق الفصاحة مع الإبهام، من جهة أن الوهم يذهب معه كل مذهب، لما فيه من المحتملات الكثيرة ومن هذا قوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨)
[طه: ٧٨] يريد أنه بلغ مبلغا تقاصرت العبارة عن كنهه فحذف ذاك وأقام الإبهام مقامه؛ لأنه أدل على البلاغة فيه كما قررناه، ومنه قوله تعالى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣)