[النجم: ٥٣، ٥٤] فهذه أبلغ من الآية التى قبلها لأن إبهامها أكثر، فلهذا كان أبلغ وأوقع، ولهذا فإنه قال فى الأولى فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨)
[طه: ٧٨] واليم هو البحر فصار الذى أصابهم من الألم والتعب إنما هو من البحر، خاصة لا من غيره، بخلاف الثانية، فإنه أبهم فيها الأمر الذى غشيها، ولم يخصه بجهة دون جهة، وهذا لا محالة يكون أبلغ؛ لأن الإنسان يرمى به خاطره فيه كل مرمى، ويذهب به كل مذهب.
ومما يجرى هذا المجرى قوله تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢)
[النجم: ١٠- ١٢] فأبهم الأمر فى هذه الأمور الثلاثة فيما شرح الله به صدره من العلوم الموحاة، وأن الفؤاد ما أنكر ما رأى من تلك العجائب الإلهية، ثم عقبه بالإنكار عليهم فى المماراة له فى الذى رآه، وما ذاك إلا لأنه قصد تعظيم حالها، وأنها بلغت فى الفخامة مبلغا لا تدركه العقول، كأنه قال: أوحى إلى عبده أمرا أى أمر، واللام فى الفؤاد للعهد؛ لأن المراد هو فؤاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كأنه قال: لا ينبغى لمثل ذلك الفؤاد أن يكذب ذلك الأمر، ولا يصلح فى مثل ذلك الأمر أن تقع فيه المماراة بحال.
ومما يجرى على هذا الأسلوب قوله تعالى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا
[طه: ٦٩] كأنه قال: ألق هذا الأمر الهائل الذى فى يمينك، فإنه يبطل ما أتوا به من سحرهم العظيم، وإفكهم الكبير، وكما يرد على جهة التعظيم كما أشرنا إليه، فقد يكون واردا على جهة التحقير، كأنه قال: وألق العويد الصغير الذى فى يمينك، فإنه مبطل على حقارته وصغره ما أتوا به من الكذب المختلق والزور المأفوك، تهكما بهم، وإزراء بعقولهم، وتسفيها لأحلامهم، ومنه قوله تعالى فى المدح فَنِعِمَّا هِيَ
[البقرة: ٢٧١] فإن هذا إبهام نزل منزلا عظيما فى إفادته المدح، وما ذاك إلا لأجل فخامته فى الإبهام، فلهذا أفاد البلاغة، ومواقعه فى القرآن أكثر من أن تحصى، ومحاسنه الكبرى أوسع من عديد الحصا، ومن الأمثلة الواردة فى السنة الشريفة قوله صلّى الله عليه وسلّم:«عش ما شئت فإنّك ميّت وأحبب من أحببت فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه» فهذا الإبهام إذا نظر فيه حاذق بصير، وفكر فيه ألمعى نحرير، وجده مع ما قد حاز من البلاغة مشتملا على مبان جمة، ونكت غزيرة، ومواعظ زاجرة، على تقارب أطرافه، وكثرة محاسنه وأوصافه، وقوله عليه السلام