للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفصل الخامس فى [الإرصاد]

اعلم أن الإرصاد فى اللغة مصدر أرصد الشىء، إذا أعده، ومنه قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)

[الفجر: ١٤] وهو مفعال، من رصده، كالميقات، من وقّته، والغرض أن الله تعالى أعد العقاب للعصاة من غير أن يفوتوه بهرب ولا امتناع، وأرصدت السلاح للحرب، وهو فى لسان علماء البيان مقبول فى المنظوم والمنثور على أن يكون أول الكلام مرصدا لفهم آخره، ويكون مشعرا به، فمتى قرع سمع السامع أول الكلام فإنه يفهم آخره لا محالة، فما هذا حاله من منثور اللفظ ومنظومه يقال له الإرصاد، واشتقاقه هو مما ذكرناه، فهذا هو الأخلق فى تلقيبه بالإرصاد لما ذكرناه، وقد حكى عن أبى هلال العسكرى وكان متقدما فى علم البلاغة على غيره آخذا منها بحظ وافر، أنه لقّب هذا النوع من الكلام بالترشيح، وهذا لا وجه له، بل تلقيبه بالإرصاد أخلق لما أشرنا إليه فى الاشتقاق، ولنورد أمثلته ليتضح الأمر فيه:

[المثال الأول من كتاب الله تعالى،]

وهذا كقوله تعالى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)

[يونس: ١٩] فإذا قرع سمع السامع قوله تعالى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا

ثم وقف على قوله: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ

[يونس: ١٩] فإنه يعرف لا محالة لما سبق من تصدير الآية أن تتمتها وتكملتها فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)

لما تقدم ما يشعر بذلك ويدل عليه، ومن ذلك قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ

[العنكبوت: ٤٠] فإذا وقف السامع على قوله: وَلكِنْ كانُوا

عرف لا محالة أن بعده ذكر ظلم النفوس لما كان فى الكلام الأول ما يدل عليه دلالة ظاهرة، وأمارة قوية، وعلى نحو هذا جاء قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ

[العنكبوت: ٤١] فإذا وقف السامع على قوله:

وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ

فإنه يعلم لا محالة أن بعده بيت العنكبوت، ومن هنا قوله تعالى:

<<  <  ج: ص:  >  >>