البيضاء، والطريقة المثلى قال:
كأن الهام فى الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنّة من هموم ... فما يخطرن إلا فى فؤاد
فانظر إلى هذه الاستعارة الرائقة التى أنافت على كل غاية، وجاوزت فى الحسن والديباجة كل نهاية، ومن ذلك ما قاله:
طوال الردينيات يقصفها دمى ... وبيض السّريجيات يقطعها لحمى
ومن ذلك ما قاله أيضا:
أمضى إرادته «فسوف» له «قد» ... واستقرب الأقصى «فثمّ» له «هنا»
وارشق مما ذكرناه وأدق قوله:
عقدت سنابكها عليها عثيرا ... لو تبتغى عنقا عليه لأمكنا
وأعجب من هذا وأدق، ما قاله أيضا:
كأنها تتلقاهم لتسلكهم ... فالطعن يفتح فى الأجواف ما تسع
إلى غير ذلك من الرقائق الرائقة والعجائب الفائقة التى فاق فيها على نظرائه، وسبق إلى غايتها قبل وصول شعرائه ومن وقف على حكمه وأمثاله، عرف أن أحدا ممن كان فى عصره لم ينسج على منواله.
[تنبيه]
اعلم أن من جملة الآداب الحسنة، واللطائف المستحسنة، أن تترك الخطاب لأهل المدائح بالأمر له بكذا وكذا، وإنما تخرجه مخرج الاستفهام، إعظاما للممدوح وإجلالا له، عن أن يكون مأمورا، وما حاله إذا فعل فإنه يكسب الكلام جمالا ويزيده أبّهة ويعطيه كمالا، كما فعل البحترى فى قصيدة أنشدها قال:
فهل أنت يا بن الراشدين مختّمى ... بياقوتة تبهى علىّ وتشرق
ولو قال ختّمنى يابن الراشدين بياقوتة، لم يكن فى الرشاقة والإجلال للخليفة كالأول، ومن هذا قول بعضهم يمدح بعض خلفاء بنى العباس:
أمقبولة، يابن الخلائف من فمى ... لديك بوصفى غادة الشعر روده