الأمر، بدليل أن العبد يجوز أن يأمر سيده بما هو على جهة الاستعلاء، ولا يصفونه بالحماقة، ولو كانت الرتبة معتبرة لم يعقل ذلك فى حق العبد، لبطلانها فيه، فهذه هى الماهية الصالحة للأمر فى نحو قولك «افعل» للمخاطب، و «ليفعل» للغائب، إلى غير ذلك من الصيغ المقررة فى علم الإعراب، وحقيقة قولنا: «افعل» ، الطلب والتردد فيه هل هو حقيقة فى الوجوب، مجاز فى الندب، أو بالعكس، أو مشترك بينهما. فأما ما عدا ذلك من الإباحة كقوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا
[البقرة: ٦٠] أو التسخير كقوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً
[البقرة: ٦٥] أو الإهانة، كقوله تعالى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠)
[الإسراء: ٥٠] أو التهديد، كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ
[فصلت: ٤٠] أو التسوية، كقوله تعالى:
اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا
[الطور: ١٦] أو غير ذلك من المعانى المستعملة فى غير الطلب، فإنها على جهة المجاز، وهذا كقوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي
[البقرة:
١٥٢] وقوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
[غافر: ٦٠] ونحو قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ
[البقرة: ٤٣] وقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ
[آل عمران: ١٠٢] إلى غير ذلك من الأوامر الشرعية، والمطلوبات الواجبة والنفلية، والأمر بالإضافة إلى تعلقاته، هل يفيد التكرار أو لا؟ وهل يقتضى الفور فيما كان من الأوامر الطلبية أو لا؟
حكى عن السكاكى أنه مفيد للفور، لأنه الظاهر من الطلب، ولتبادر الفهم إلى التحصيل، وفيه نظر، والحق أن الأوامر ساكته، بالإضافة إلى التكرار، وبالإضافة إلى الفور، وليس فى ظاهرها ما يدل على واحد من هذين الأمرين إلا لدلالة خارجة عن ظاهر الأمر، وقد قررنا هذه المسألة فى الكتب الأصولية، فإن فيها محطّ رحالها، وعليها حمل عبئها وأثقالها، والإحاطة بعلوم البيان لا تكفى فى تحقيق هذه المسألة، بل لها مأخذ آخر موكول إلى علماء الأصول، ولقد صدق من قال:
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة ... فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
[الضرب الثانى: النهى]
وهو عبارة عن قول ينبىء عن المنع من الفعل على جهة الاستعلاء، كقولك: لا تفعل، ولا تخرج. فقولنا: «قول ينبىء» ، يدخل فيه جميع ما يدل على المنع من الفعل فى سائر اللغات، وقولنا «على جهة الاستعلاء» ، نحترز به عن الرتبة، فإنها غير معتبرة، ومن