فالطرف الأعلى منه يقع التناسب فيه بحيث لا يمكن أن يزاد عليه، وعند هذا تكون تلك الصورة وذلك النظام فى الكلام فى الطبقة العليا من الحسن والإعجاب، والطرف الأسفل أن يحصل هناك من التناسب قدر بحيث لو انتقص منه شىء لم تحصل تلك الصورة، ثم بين الطرفين مراتب مختلفة متفاوتة جدا.
فإذا عرفت هذا فنقول أما الطرف الأسفل فهل يعد من البلاغة أم لا؟ فيه تردد، والحق أنه معدود منها؛ لأنا قد قلنا: إنه طرف لها وما كان طرفا للشىء فهو منه وبعض له، وزعم ابن الخطيب أنه ليس من البلاغة فى شىء، ولا يكون معدودا منها؛ لأن منزلة البلاغة أعلى وأشرف من أن يقال: إنه ليس بين هذا الكلام وبين خروجه عن حد البلاغة إلا أن ينقص منه شىء، فما هذا حاله من الكلام لا يعد من البلاغة أصلا، وأما سائر المراتب فإنها مع تفاوتها فى منازلها فهى معدودة من فن البلاغة خلا أنّ بعضها أبلغ من بعض، فالأعلى أبلغ مما تحته من المراتب. وأما الطرف الأعلى وما يقرب منه فهو المعجز، لأنه ليس فوقه رتبة، لأنه قد بلغ الغاية فى الفصاحة والبلاغة الحاصلين من جهة مفردات الحروف تارة، ومن جهة تركيبها أخرى.
[المبحث الثالث فى حكم البلاغة]
اعلم أنه لا خلاف بين أهل التحقيق من علماء البيان أن الكلام لا يوصف بكونه بليغا إلا إذا حاز مع جزالة المعنى فصاحة الألفاظ، ولا يكون بليغا إلا بمجموع الأمرين كليهما فقد صارت البلاغة وصفا عارضا للألفاظ والمعانى كما ترى.
وأما الفصاحة فهل تكون من عوارض الألفاظ، أو تكون من عوارض المعانى، أو لمجموعهما؟ فيه مذاهب أربعة:
أولها: أنها من عوارض الألفاظ مجردة لا باعتبار دلالتها على المعانى، وهذا هو الذى يشير إليه كلام ابن الأثير فى كتابه المثل السائر فإنه قال: إنّ الفصاحة مدركة بالسمع، وليس يدرك بحاسة السمع إلا اللفظ، فلهذا كانت مقصورة عليه.
وثانيها: أن الفصاحة من عوارض المعانى دون الألفاظ وهذا هو الذى يرمز إليه ابن الخطيب الرازى فى كتابه نهاية الإيجاز، فإنه زعم أن الفصاحة عبارة عن الدلالات المعنوية