[النظر الخامس فى الإيجاز والإطناب والمساواة]
اعلم أن الكلام بالإضافة إلى معناه كالقميص بالإضافة إلى قد من هو له، فربما كان على قدر قدّه من غير زيادة ولا نقصان، وهذا هو المساواة، وتارة يكون زائدا على قده وهذا هو الإطناب، وربما نقص عن قده، وهذا هو الإيجاز، فإذن الكلام لا يخلو عن هذه الأنواع الثلاثة، ونحن نذكرها.
[النوع الأول الإيجاز]
وهو فى مصطلح أهل هذه الصناعة عبارة عن تأدية المقصود من الكلام بأقل عبارة متعارف عليها، ثم إنه يأتى على وجهين، أحدهما القصر، وهو الإتيان بلفظ قليل تحته معان جمة، وهذا كقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
[البقرة: ١٧٩] فإنه قد دلّ على معناه بأوجز عبارة وأخصرها، وقد فاق على ما أثر عن العرب فى معناه من قولهم: «القتل أنفى للقتل» من أوجه، من جهة إيجازه، فإن حروفه عشرة، وما قالوه أربعة عشر حرفا، ومن جهة سلامته عن التكرار، ومن جهة تصريحه بالمقصود، وهو لفظ الحياة، ومن جهة بلاغة معناه، فإن تنكير الحياة أعظم جزالة، وأبلغ فخامة، وغير ذلك من الأوجه التى تميز بها عن غيره، وكقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
[النساء: ١٢٣] فهذا كلام مختصر وجيز دال على معناه بحيث لا يدرك إيجازه، ولا ينال كنهه، ومنه قوله تعالى:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)
[الزلزلة: ٧- ٨] وثانيهما إيجاز بالحذف، ومثاله قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها
[يوسف: ٨٢] فإن الغرض أهل القرية، ويتبع فى ذلك الأمور المحذوفة من حذف علة، أو جواب شرط، كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ
[لقمان: ٢٧] المعنى لتنفد كلمات الله ما نفدت، ومنه قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى
[الرعد: ٣١] التقدير لكان هذا القرآن، وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ
[الأنعام: ٢٧] التقدير فيه لشاهدوا ما تقصر العبارة عن كنهه، أو لتحسّروا وانقطعت أفئدتهم، لأن المقام مقام تهويل، فلا بد من تقديره كما ترى، وكقوله تعالى: