اعلم أن هذا الفصل ركن من أركان البلاغة، وحقيقة آئلة إلى أنه ينبغى لكل من تصدى لمقصد من المقاصد وأراد شرحه بكلام أن يكون مفتتح كلامه ملائما لذلك المقصد دالا عليه، فما هذا حاله يحب مراعاته فى النظم والنثر جميعا، ويستحب التزامه فى الخطب والرسائل والتصانيف، وهكذا حال التهانى والتعازى يكون مبدؤها وتصديرها بما يناسب ذلك المعنى ليكون معلوما من أول وهلة، فحيث يكون المطلع جاريا على ما ذكرناه فهو من الافتتاح الحسن، وحيث يكون جاريا على عكسه فهو معدود من القبيح، فهذان طرفان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما.
[الطرف الأول فى ذكر الافتتاحات الرائعة ولنورد فيها أمثلة أربعة]
[المثال الأول من كتاب الله تعالى]
وذلك أن الله تعالى لما أذن بالفتح على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكان هو الغاية والمنتهى بطى بساط الرسالة لما ظهر نور الإسلام. ومد بجرانه على جميع الأديان، فأنزل الله تعالى على رسوله آية هى مناسبة لما هو فيه من إشارة الإيمان، وبلوغه الغاية ويذكر منه عليه بما أظهر على يديه من ذلك فقال فيها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣)
[الفتح: ١- ٣] فانظر إلى هذه الآية ما أعجب ملائمتها لهذه الحالة، وأشد تصريحها بالمقصود من أول وهلة، فصدر الآية بذكر الفتح إظهارا للمنة، وتكملة للنعمة، ثم أردفه بذكر المغفرة إعظاما لحاله، ورفعا من منزلته، وتقريرا لنفسه وتسلية لما كابد قبله من عظم المشقة وشدة المحنة، ثم وجه التعليل بالمغفرة إلى الفتح، إيذانا بأنه إنما استحق الغفران لما كان منه من الصغائر من أجل ما استحق على العناية فى الفتح ومكابدة شدائده، فلأجل ذلك كان مستحقا للأجر الأعظم الذى يكون ثوابه مكفرا لتلك الصغائر التى صرح بها الشرع وجوزها عليه، «فأما» الزمخشرى فقد قال فى تفسيره إنه ليس واردا على جهة التعليل على أحد وجهته، وإنما هو وارد على جهة التعديد لما أنعم الله عليه من غفران ذنوبه، وإتمام نعمته عليه والهداية والنصر.