اعلم أن الالتفات من أجل علوم البلاغة وهو أمير جنودها، والواسطة فى قلائدها وعقودها، وسمى بذلك أخذا له من التفات الإنسان يمينا وشمالا، فتارة يقبل بوجهه وتارة كذا، وتارة كذا، فهكذا حال هذا النوع من علم المعانى، فإنه فى الكلام ينتقل من صيغة إلى صيغة، ومن خطاب إلى غيبة، ومن غيبة إلى خطاب إلى غير ذلك من أنواع الالتفات، كما سنوضحه، وقد يلقب بشجاعة العربية، والسبب فى تلقيبه بذلك، هو أن الشجاعة هى الإقدام، والرجل إذا كان شجاعا فإنه يرد الموارد الصعبة، ويقتحم الورط العظيمة حيث لا يردها غيره، ولا يقتحمها سواه، ولا شك أن الالتفات مخصوص بهذه اللغة العربية دون غيرها، ومعناه فى مصطلح علماء البلاغة، هو العدول من أسلوب فى الكلام إلى أسلوب آخر مخالف للأول، وهذا أحسن من قولنا: هو العدول من غيبة إلى خطاب، ومن خطاب إلى غيبة؛ لأن الأول يعم سائر الالتفاتات كلها، والحد الثانى إنما هو مقصور، على الغيبة والخطاب لا غير، ولا شك أن الالتفات قد يكون من الماضى إلى المضارع، وقد يكون على عكس ذلك، فلهذا كان الحد الأول هو أقوى دون غيره، فإذا عرفت هذا فاعلم أن لعلماء البلاغة فى الوجه الذى لأجله دخل الالتفات فى الكلام أقوالا ثلاثة، فالقول الأول وهو الذى عول عليه ابن الأثير، وحاصل ما قاله هو أنه لا يختص بضابط يجمعه، ولكنه يكون على حسب مواقعه فى البلاغة، وموارده فى الخطاب، وآل كلامه إلى أن الناظر إنما يعرف حسن مواقع الالتفات إذا نظر فى كل موضع يكون فيه الالتفات، فيعرف قدر بلاغته بالإضافة إلى ذلك الموقع بعينه، فأما أن يكون مضبوطا بضابط واحد فلا وجه له، هذا ملخص كلامه بعد حذف أكثر فضلاته.
القول الثانى محكى عن بعض من خاض فى علوم البيان، وتقرير ما قاله: هو أن ذلك من عادة العرب وأساليبها فى الكلام، وزيّف ابن الأثير هذه المقالة، وقال هذا التعليل هو مثل عكاز العميان، وأراد بما قاله من عكّاز العميان، هو أن عكاز الأعمى لا يسئل عن علة حاجته إليه، فإن علة حاجته إليه ظاهرة لا تحتاج إلى بيان وكشف، فكذا ما قالوه من تعليل ورود الالتفات بكونه أسلوبا من أساليب الكلام، فإن كونه أسلوبا من أساليب الكلام ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وهو لعمرى كما قاله، فإن كلامه لا فائدة فيه.